صفحة جزء
( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما )

قوله تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) .

اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام ، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم ، كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة ، لا جرم أثنى على القرآن فقال : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) .

[ ص: 129 ] واعلم أن قوله تعالى : ( دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ) [ الأنعام : 161 ] يدل على كون هذا الدين مستقيما ، وقوله في هذه الآية : ( للتي هي أقوم ) يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان . وأقول : قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك ، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة ، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية ، وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيما كونه حقا وصدقا ، ودخول التفاوت في كون الشيء حقا وصدقا محال ، فكان وصفه بأنه أقوم مجازا ، إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا : الله أكبر أي : الله كبير ، وقولنا : الأشج والناقص أعدلا بني مروان ، أي : عادلا بني مروان ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف . والله أعلم .

البحث الثاني : قوله : ( للتي هي أقوم ) نعت لموصوف محذوف ، والتقدير : يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق ، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله : ( ادفع بالتي هي أحسن ) [ المؤمنون : 96 ] أي : بالخصلة التي هي أحسن .

أما قوله : ( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ) فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات :

الصفة الأولى : أنه يهدي للتي هي أقوم ، وقد مر تفسيره .

والصفة الثانية : أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير ، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح ، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر ، وذلك هو الأجر الكبير لأن الطريق الأقوم لا بد وأن يفيد الربح الأكبر والنفع الأعظم .

والصفة الثالثة : قوله : ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) وذلك لأن الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح كما يوجب لفاعله النفع الأكمل الأعظم فكذلك تركه يوجب لتاركه الضرر الأعظم الأكمل .

واعلم أن قوله : ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ) عطف على قوله : ( أن لهم أجرا كبيرا ) والمعنى أنه تعالى بشر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم ، ونظيره قوله : بشرت زيدا أنه سيعطى وبأن عدوه سيمنع .

فإن قيل : كيف يليق لفظ البشارة بالعذاب ؟

قلنا : مذكور على سبيل التهكم ، أو يقال : إنه من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر ، كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] .

فإن قيل : هذه الآية واردة في شرح أحوال اليهود وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة ، فكيف يليق بهذا الموضع قوله : ( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ) ؟

قلنا : عنه جوابان :

أحدهما : أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين .

والثاني : أن بعضهم قال : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) [ آل عمران : 24 ] فهم في هذا القول صاروا كالمنكرين للآخرة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية