صفحة جزء
( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا )

قوله تعالى : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا ) .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه :

الوجه الأول : أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه ، فكذلك الدهر مركب من النهار والليل . فالمحكم كالنهار ، والمتشابه كالليل ، وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه ، فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل .

والوجه الثاني : في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة ، لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد ، وهو عجائب العالم العلوي والسفلي .

الوجه الثالث : أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولا أي : منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة ، بين أن كل أحوال هذا العالم كذلك ، وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد ، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد . والله أعلم .

المسألة الثانية : في قوله : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) قولان :

القول الأول : أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار . والمعنى : أنه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدين والدنيا . أما في الدين : فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير له ، مع كونهما متعاقبين على الدوام ، من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودين لذاتهما ، بل لا بد لهما من فاعل يدبرهما ويقدرهما بالمقادير المخصوصة ، وأما في الدنيا : فلأن مصالح الدنيا لا تتم إلا بالليل والنهار ، فلولا الليل لما حصل السكون والراحة ، ولولا النهار لما حصل الكسب والتصرف في وجوه المعاش .

ثم قال تعالى : ( فمحونا آية الليل ) وعلى هذا القول : تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين ، والتقدير : فمحونا الآية التي هي الليل وجعلنا الآية التي هي نفس النهار مبصرة ، ونظيره قولنا : نفس الشيء [ ص: 132 ] وذاته ، فكذلك آية الليل هي نفس الليل . ويقال أيضا : دخلت بلاد خراسان أي : دخلت البلاد التي هي خراسان ، فكذلك ههنا .

القول الثاني : أن يكون المراد وجعلنا نري الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر ، فمحونا آية الليل وهي القمر ، وفي تفسير محو القمر قولان :

القول الأول : المراد منه ما يظهر في القمر من الزيادة والنقصان في النور ، فيبدو في أول الأمر في صورة الهلال ، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرا كاملا ، ثم يأخذ في الانتقاص قليلا قليلا ، وذلك هو المحو ، إلى أن يعود إلى المحاق .

والقول الثاني : المراد من محو القمر الكلف الذي يظهر في وجهه يروى أن الشمس والقمر كانا سواء في النور والضوء ، فأرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام فأمر جناحه على وجه القمر فطمس عنه الضوء . ومعنى المحو في اللغة : إذهاب الأثر ، تقول : محوته أمحوه وانمحى وامتحى إذا ذهب أثره ، وأقول : حمل المحو في هذه الآية على الوجه الأول أولى ، وذلك لأن اللام في قوله : ( لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) متعلق بما هو مذكور قبل ، وهو محو آية الليل . وجعل آية النهار مبصرة ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله . إذا حملنا المحو على زيادة نور القمر ونقصانه ، لأن سبب حصول هذه الحالة يختلف بأحوال نور القمر ، وأهل التجارب بينوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه ، مثل أحوال البحار في المد والجزر ، ومثل أحوال التجربات على ما تذكره الأطباء في كتبهم ، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور ، وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الأهلة كما قال : ( ولتعلموا عدد السنين والحساب ) فثبت أن حمل المحو على ما ذكرناه أولى . وأقول أيضا : لو حملنا المحو على الكلف الحاصل في وجه القمر ، فهو أيضا برهان عظيم قاهر على صحة قول المسلمين في المبدأ والمعاد ، أما دلالته على صحة قولهم في المبدأ ، فلأن جرم القمر جرم بسيط عند الفلاسفة ، فوجب أن يكون متشابه الصفات ، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدل على أنه ليس بسبب الطبيعة ، بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي ، وبعض أجزائه بالنور الضعيف ، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذات . وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه ، أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ، فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوء من جرم القمر ، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان ، وهذا لا يفيد مقصود الخصم ، لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ؟ وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب ، وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب ؟ وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار ، وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات ، والله أعلم .

أما قوله : ( وجعلنا آية النهار مبصرة ) ففيه وجهان :

الأول : أن معنى كونها مبصرة أي : مضيئة وذلك لأن [ ص: 133 ] الإضاءة سبب لحصول الإبصار ، فأطلق اسم الإبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم المسبب على السبب .

والثاني : قال أبو عبيدة يقال : قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه ، كقوله : رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ، ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافا ، فكذا قوله : " النهار مبصر " ، أي : أهله بصراء .

واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار ، قال : ( وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) [ النبأ : 10 - 11 ] وقال أيضا : ( جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) [ القصص : 73 ] .

ثم قال تعالى : ( لتبتغوا فضلا من ربكم ) أي : لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم ( ولتعلموا عدد السنين والحساب ) .

واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب : الساعات والأيام والشهور والسنون ، فالعدد للسنين ، والحساب لما دون السنين ، وهي الشهور والأيام والساعات ، وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب : الآحاد والعشرات والمئات والألوف ، وليس بعدها إلا التكرار . والله أعلم .

ثم قال : ( وكل شيء فصلناه تفصيلا ) والمعنى : أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ، ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من الله تعالى على أهل الدنيا ، فلما شرح الله تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق ، كان ذلك تفصيلا نافعا وبيانا كاملا ، فلا جرم قال : ( وكل شيء فصلناه تفصيلا ) أي : كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم ، فقد فصلناه وشرحناه ، وهو كقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) [ الأنعام : 38 ] وقوله : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ) [ النحل : 89 ] وقوله : ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) [ الأحقاف : 25 ] وإنما ذكر المصدر وهو قوله : ( تفصيلا ) لأجل تأكيد الكلام وتقريره ، كأنه قال : وفصلناه حقا وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية