صفحة جزء
المسألة الرابعة : قال حكماء الإسلام : هذه الآية في غاية الشرف ، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث :

البحث الأول : أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه ، وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقدارا من الخير والشر ، فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه ، فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت ، فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولا لا خلاص له البتة ولا انحراف عنه البتة . وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طائر طيره الله إليه على منهج معين وطريق معين ، وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر ، فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية . [ ص: 136 ]

والبحث الثاني : أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام الله تعالى . وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثا متقدما عليه لحصول الحادث المتأخر ، فلما كان وضع هذه السلسلة من الله لا جرم كان الكل من الله ، وعند هذا يتخيل الإنسان طيورا لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها ، فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب ، وأنها صارت وطارت طيرانا لا بداية له ولا غاية له ، وكان كل واحد منها متوجها إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة ، وهذا هو المراد من قوله : ( ألزمناه طائره في عنقه ) .

البحث الثالث : أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس ، ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظا ، ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له .

إذا عرفت هذا فنقول : لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس ، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر ، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثرا ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفا قليلا ، وإن كانت الكتابة أيضا في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة ، فعلى هذا ، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت ، ممتنعة الزوال ، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح .

وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول : إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيرا كان أو قليلا ، قويا كان أو ضعيفا ، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص ، فإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات . وإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان . إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن ، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها ، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة لقوله عليه الصلاة والسلام : " من مات فقد قامت قيامته " ومعنى كون هذه الحالة قيامة أن النفس الناطقة كأنها كانت ساكنة مستقرة في هذا الجسد السفلي ، فإذا انقطع ذلك التعلق ، قامت النفس وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي ، فهذا هو المراد من كون هذه الحالة قيامة ، ثم عند حصول القيامة بهذا المعنى زال الغطاء وانكشف الوطاء ، وقيل له ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) [ ق : 22 ] وقوله : ( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) معناه : ونخرج له عند حصول هذه القيامة من عمق البدن المظلم كتابا مشتملا على جميع تلك الآثار الحاصلة بسبب الأحوال الدنيوية ، ويكون هذا الكتاب في هذا الوقت منشورا ، لأن الروح حين كانت في البدن كانت هذه الأحوال فيه مخفية فكانت كالمطوية . أما بعد انقطاع التعلق الجسداني ظهرت هذه الأحوال وجلت وانكشفت فصارت كأنها مكشوفة منشورة بعد أن كانت مطوية , وظاهرة بعد أن كانت مخفية ، وعند ذلك تشاهد القوة العقلية جميع تلك الآثار مكتوبة بالكتابة الذاتية في جوهر الروح فيقال له في تلك الحالة : ( اقرأ كتابك ) ثم يقال له : ( كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) فإن تلك الآثار إن كانت من موجبات السعادة [ ص: 137 ] حصلت السعادة لا محالة ، وإن كانت من موجبات الشقاوة حصلت الشقاوة لا محالة ، فهذا تفسير هذه الآية بحسب الأحوال الروحانية .

واعلم أن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها ، واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا ، والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل . والله أعلم بحقائق الأمور .

التالي السابق


الخدمات العلمية