1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة الإسراء
  4. قوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
صفحة جزء
المسألة الخامسة : في دلائل مثبتي النفس من ناحية العقل ، احتج القوم بوجوه كثيرة بعضها قوي وبعضها ضعيف ، والوجوه القوية بعضها قطعية وبعضها إقناعية ، فلنذكر الوجوه القطعية .

الحجة الأولى : لا شك أن الإنسان جوهر فإما أن يكون جوهرا متحيزا أو غير متحيز ، والأول باطل فتعين الثاني ، والذي يدل على أنه يمتنع أن يكون جوهرا متحيزا أنه لو كان كذلك لكان كونه متحيزا غير تلك الذات ولو كان كذلك لكان كل ما علم الإنسان ذاته المخصوصة وجب أن يعلم كونه متحيزا بمقدار مخصوص وليس الأمر كذلك فوجب أن لا يكون الإنسان جوهرا متحيزا فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى مقدمات ثلاثة :

المقدمة الأولى : لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان كونه متحيزا عين ذاته المخصوصة والدليل عليه أنه لو كان تحيزه صفة قائمة لكان ذلك المحل من حيث هو مع قطع النظر عن هذه الصفة ، إما أن يكون متحيزا أو لا يكون والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون التحيز صفة قائمة بالمحل إنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز لأنه يلزم كون الشيء الواحد متحيزا مرتين ولأنه يلزم اجتماع المثلين ، ولأنه ليس جعل أحدهما ذاتا والآخر صفة أولى من العكس ولأن التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود وإن كان صفة لزم التسلسل وهو محال ، وإنما قلنا إنه يمتنع أن يكون محل التحيز غير متحيز لأن حقيقة التحيز هو الذهاب في الجهات والامتداد فيها ، والشيء الذي لا يكون متحيزا لم يكن له اختصاص بالجهات وحصوله فيها ليس بمتحيز محال ، فثبت بهذا أنه لو كان الإنسان جوهرا متحيزا لكان تحيزه غير ذاته المخصوصة .

المقدمة الثانية : لو كان تحيز ذاته المخصوصة عين ذاته المخصوصة لكان متى عرف ذاته المخصوصة فقد عرف كونها متحيزة ، والدليل عليه أنه لو صارت ذاته المخصوصة معلومة وصار تحيزه مجهولا لزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال .

[ ص: 39 ] المقدمة الثالثة : أنا قد نعرف ذاتنا حال كوننا جاهلين بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاثة وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان فإن الإنسان حال كونه مشتغلا بشيء من المهمات مثل أن يقول لعبده لم فعلت كذا ولم خالفت أمري وإني أبالغ في تأديبك وضربك ، فعندما يقول لم خالفت أمري يكون عالما بذاته المخصوصة إذ لو لم يعلم ذاته المخصوصة لامتنع أن يعلم أن ذلك الإنسان خالفه ولامتنع أن يخبر عن نفسه بأنه على عزم أن يؤدبه ويضربه ففي هذه الحالة يعلم ذاته المخصوصة مع أنه في تلك الحالة لا يخطر بباله حقيقة التحيز والامتداد في الجهات والحصول في الحيز فثبت بما ذكرنا أنه لو كان ذات الإنسان جوهرا متحيزا لكان تحيزه عين ذاته المخصوصة ولو كان كذلك لكان كل ما علم ذاته المخصوصة فقد علم التحيز وثبت أنه ليس كذلك فيلزم أن يقال ذات الإنسان ليس جوهرا متحيزا وذلك هو المطلوب ، فإن قالوا هذا معارض بأنه لو كان جوهرا مجردا لكان كل من عرف ذات نفسه عرف كونه جوهرا مجردا وليس الأمر كذلك ، قلنا الفرق ظاهر لأن كونه مجردا معناه أنه ليس بمتحيز ولا حالا في المتحيز وهذا السلب ليس عين تلك الذات المخصوصة لأن السلب ليس عين الثبوت ، وإذا كان كذلك لم يبعد أن تكون تلك الذات المخصوصة معلومة وأن لا يكون ذلك السلب معلوما بخلاف كونه متحيزا فإنا قد دللنا على أن تقدير كون الإنسان جوهرا متحيزا يكون تحيزه عين ذاته المخصوصة وعلى هذا التقدير يمتنع أن تكون ذاته معلومة ويكون تحيزه مجهولا فظهر الفرق .

الحجة الثانية : النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه فهذه الحجة مبنية على مقدمات :

المقدمة الأولى : هي قولنا النفس واحدة ولنا ههنا مقامان تارة ندعي العلم البديهي فيه وأخرى نقيم البرهان على صحته .

أما المقام الأول : وهو ادعاء البديهية فنقول المراد من النفس هو الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله أنا ، وكل أحد يعلم بالضرورة أنه إذا أشار إلى ذاته المخصوصة بقوله أنا كان ذلك المشار إليه واحدا غير متعدد فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المشار إليه لكل أحد بقوله أنا وإن كان واحدا إلا أن ذلك الواحد يكون مركبا من أشياء كثيرة قلنا إنه لا حاجة لنا في هذا المقام إلى دفع هذا السؤال بل نقول المشار إليه بقول أنا معلوم بالضرورة أنه شيء واحد فأما أن ذلك الواحد هل هو واحد مركب من أشياء كثيرة أو هو واحد في نفسه واحد في حقيقته فهذا لا حاجة إليه في هذا المقام .

أما المقام الثاني : وهو مقام الاستدلال . فالذي يدل على وحدة النفس وجوه :

الحجة الأولى : أن الغضب حالة نفسانية تحدث عند إرادة دفع المنافر ، والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملايم مشروطا بالشعور بكون الشيء ملايما ومنافرا ، فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافر إن لم يكن لها شعور بكونه منافرا امتنع انبعاثها لدفع ذلك المنافر على سبيل القصد والاختيار لأن القصد إلى الجذب تارة وإلى الدفع أخرى مشروط بالشعور بالشيء ، فالشيء المحكوم عليه بكونه دافعا للمنافر على سبيل الاختيار لا بد وأن يكون له شعور بكونه منافرا فالذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا ، فثبت بهذا البرهان اليقيني مباينة حاصلة في ذوات متباينة .

الحجة الثانية : أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص مانعا للآخر من اشتغاله بفعله الخاص به ، وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهرا ومحل الغضب جوهرا آخر ومحل الشهوة جوهرا ثالثا وجب أن لا يكون اشتغال [ ص: 40 ] القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن الثاني باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب وانصبابه إليه وبالعكس ، فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادئ مستقلة بل هي صفات مختلفة بجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقا له عن الاشتغال بالفعل الآخر .

الحجة الثالثة : أنا إذا أدركنا أشياء فقد يكون الإدراك سببا لحصول الشهوة وقد يصير سببا لحصول الغضب فلو كان الجوهر المدرك مغايرا للذي يغضب والذي يشتهي فحين أدرك الجوهر المدرك لم يحصل عند الجوهر المشتهى من ذلك الإدراك أثر ولا خبر فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب وحيث حصل هذا الترتيب والاستلزام علمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة بعينها وصاحب الغضب بعينه .

الحجة الرابعة : أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه ، وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركا للخير والشر والملذ والمؤذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد ، وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية .

وأما المقدمة الثانية : في بيان أنه لما كانت النفس شيئا واحدا وجب أن لا تكون النفس في هذا البدن ولا شيئا من أجزائه فنقول : أما بيان أنه متى كان الأمر كذلك امتنع كون النفس عبارة عن جملة هذا البدن ، وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر والتفكر ، والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية ، وأما بيان أنه يمتنع أن تكون النفس جزءا من أجزاء هذا البدن فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد وهو بعينه موصوف بالإبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الإبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء ، والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء ، والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء ، وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وبكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل بأنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال ، وثبت بالبديهية أن جملة البدن ليست كذلك ، وثبت أيضا أن شيئا من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب ، ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى فنقول : إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئا عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه ، فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي والمتحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئا والعارف شيئا ثانيا والمشتهي شيئا ثالثا والمتحرك شيئا رابعا لكان الذي أبصر لم يعرف ، والذي عرف لم يشته ، والذي اشتهى لم يتحرك ، ومن المعلوم أن كون الشيء مبصرا لشيء لا يقتضي [ ص: 41 ] صيرورة شيء آخر عالما بذلك الشيء ، وكذلك القول في سائر المراتب وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات لما كان رآها فقد عرفها ولما عرفها فقد اشتهاها ولما اشتهاها طلبها وحرك الأعضاء إلى القرب منها ، ونعلم أيضا بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذه الشهوة وبهذا التحرك هو لا غيره ، وأيضا العقلاء قالوا : الحيوان لا بد أن يكون حساسا متحركا بالإرادة فإنه إن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائما أو بكونه منافرا ، وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركا بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا ، فثبت أن المدرك لجميع المدركات يدرك بجميع أصناف الإدراكات ، وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد ، وأيضا فلأنا إذا تكلمنا بكلام نقصد منه تفهيم الغير ( عقلنا ) معاني تلك الكلمات ثم لما عقلناها أردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني ، إذا ثبت هذا فنقول : إن كان محمل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسما واحدا لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وإن قلنا : محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أيضا أن يكون محل الصوت هو القلب وذلك أيضا باطل بالضرورة ، وإن قلنا محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ، ومحل العلوم والإرادات هو القلب ، ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات ، كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك ، وبينا أن المدرك لجميع المدركات والمحرك لجميع الأعضاء بكل أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا ، فلم يبق إلا أن يقال في الإدراك والقدرة على التحريك [ أنه ] شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن الإنسان يعقل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب ، فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها ، والنفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في ثبوت هذا المطلوب والله أعلم .

المقدمة الثالثة : لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة ، وإما أن يقوم بمجموع الأجزاء حياة وعلم وقدرة ، والقسمان باطلان فبطل القول بكون الإنسان عبارة عن هذا الجسد ، وأما بطلان القسم الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا عالما قادرا على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيوانا واحدا بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس وربط بعضهم بالبعض بالتسلسل لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة لا حيوانات كثيرين ، وأيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منهما خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الأخر أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين شخصين ، وفساد ذلك معلوم بالبديهة ، وأما بطلان القسم الثاني فلأنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة ، وذلك معلوم البطلان بالضرورة ولأنه لو جاز حلول الصفة الواحدة في المحال الكثيرة لم يبعد أيضا حصول الجسم الواحد في الأحياز الكثيرة ولأن بتقدير أن تحصل الصفة الواحدة في المحال المتعددة فحينئذ يكون كل واحد من تلك الأجزاء حيا عاقلا [ ص: 42 ] عالما فيتجرد الأمر إلى كون هذه الجثة الواحدة أناسا كثيرين ، ولما ظهر فساد القسمين ثبت أن الإنسان ليس هو هذه الجثة ، فإن قالوا : لم لا يجوز أن تقوم الحياة الواحدة بالجزء الواحد ، ثم إن تلك الحياة تقتضي صيرورة جملة الأجزاء أحياء قلنا هذا باطل لأنه لا معنى للحياة إلا الحيية ، ولا معنى للعلم إلا العالمية ، وبتقدير أن نساعد على أن الحياة معنى يوجب الحيية والعلم معنى يوجب العالمية إلا أنا نقول إن حصل في مجموع جثة مجموع حياة واحدة وعالمية واحدة فقد حصلت الصفة الواحدة في المحال الكثيرة وهو محال ، وإن حصل في كل جزء وجثة حياة على حدة وعالمية على حدة عاد ما ذكرنا من كون الإنسان الواحد أناسا كثيرين وهو محال .

المقدمة الرابعة : أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم ، وذلك يدل على أن النفس ليست جسما ، وتقرير هذه المنافاة من وجوه :

الأول : أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى زوالا تاما مثاله : أن الشمع إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه ، نعم إنا وجدنا الحال في تصور النفس بصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يبعد قبولها شيئا من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة صار قبولها للصورة الثانية أسهل ، ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر صار قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ، ولهذا السبب يزداد الإنسان فهما وإدراكا كلما ازداد تخرجا وارتباطا في العلوم فثبت أن قبول النفس للصور العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم .

والثاني : أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن ، أما أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس من القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها ، وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه ، وهذه الحالة لو استمرت لانتقلت إلى الماليخوليا وسوق الموت ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته ، فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد سببا لكماله ونقصانه معا ولحياته وموته معا ، وأنه محال .

والثالث : أنا إذا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا ، فإذا لاح له نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جراءة عظيمة وسلطنة قوية ، ولم يعبأ بحضور أكابر السلاطين ولم يقم لهم وزنا ولولا أن النفس شيء سوى البدن لما كان الأمر كذلك .

الرابع : أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوة الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروما عن آثار النطق والعقل والمعرفة ولولا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك .

الخامس : أنا نرى أن النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل ، أما إذا آل الأمر إلى العقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ، ولذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يبصر شيئا إذا أغمض عينيه وأن لا يسمع صوتا إذا سد أذنيه ، كما لا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالما به فعلمنا أن النفس غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية ، فهذه الوجوه الخمسة أمارات قوية في أن النفس [ ص: 43 ] ليست بجسم ، وفي المسألة الأولى كثير من دلائل المتقدمين ذكرناها في كتبنا الحكمية فلا فائدة في الإعادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية