المسألة السابعة : في الفرق بين الكرامات والاستدراج ، اعلم أن من أراد شيئا فأعطاه الله مراده لم يدل ذلك على كون ذلك العبد وجيها عند الله تعالى ، سواء كانت العطية على وفق العادة أو لم تكن على وفق العادة ، بل قد يكون ذلك إكراما للعبد ، وقد يكون استدراجا له ، ولهذا الاستدراج أسماء كثيرة من القرآن : 
أحدها : الاستدراج قال الله تعالى : ( 
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون   ) ( القلم : 44 ) ومعنى الاستدراج أن 
يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وجهله وعناده ، فيزداد كل يوم بعدا من الله وتحقيقه : أنه ثبت في العلوم العقلية أن تكرر الأفعال سبب لحصول الملكة الراسخة ، فإذا مال قلب العبد إلى الدنيا ، ثم أعطاه الله مراده ، فحينئذ يصل الطالب إلى المطلوب ، وذلك يوجب حصول اللذة ، وحصول اللذة يزيد في الميل ، وحصول الميل يوجب مزيد السعي ، ولا يزال يتأدى كل واحد منهما إلى الآخر وتتقوى كل واحدة من هاتين الحالتين درجة فدرجة ، ومعلوم أن الاشتغال بهذه اللذات العاجلة مانع عن مقامات المكاشفات ودرجات المعارف ، فلا جرم يزداد بعده عن الله درجة فدرجة إلى أن يتكامل ، فهذا هو الاستدراج . 
وثانيها : المكر قال تعالى : ( 
فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون   ) ( الأعراف : 99 ) ، ( 
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين   ) ( آل عمران : 54 ) وقال : ( 
ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون   ) ( النمل : 50 ) . 
وثالثها : الكيد قال تعالى : ( 
يخادعون الله وهو خادعهم   ) ( النساء : 142 ) وقال : ( 
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم   ) ( البقرة : 9 ) . 
ورابعها : الإملاء ، قال تعالى : ( 
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما   ) ( آل   
[ ص: 80 ] عمران : 178 ) . 
وخامسها : الإهلاك قال تعالى : ( 
حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم   ) ( الأنعام : 44 ) وقال في 
فرعون    : ( 
واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم   ) ( القصص : 40 ) فظهر بهذه الآيات أن الإيصال إلى المرادات لا يدل على كمال الدرجات والفوز بالخيرات ، بقي علينا أن نذكر الفرق بين الكرامات وبين الاستدراجات ، فنقول : إن 
صاحب الكرامة لا يستأنس بتلك الكرامة بل عند ظهور الكرامة يصير خوفه من الله تعالى أشد ، وحذره من قهر الله أقوى ، فإنه يخاف أن يكون ذلك من باب الاستدراج ، وأما صاحب الاستدراج فإنه يستأنس بذلك الذي يظهر عليه ، ويظن أنه إنما وجد تلك الكرامة ؛ لأنه كان مستحقا لها وحينئذ يستحقر غيره ويتكبر عليه ، ويحصل له أمن من مكر الله وعقابه ولا يخاف سوء العاقبة ، فإذا ظهر شيء من هذه الأحوال على صاحب الكرامة دل ذلك على أنها كانت استدراجا لا كرامة ، فلهذا المعنى قال المحققون : أكثر ما اتفق من الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات ، كما يخافون من أنواع البلاء ، والذي يدل على أن الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه : 
الحجة الأولى : أن هذا الغرور إنما يحصل إذا اعتقد الرجل أنه مستحق لهذه الكرامة ؛ لأن بتقدير أن لا يكون مستحقا لها امتنع حصول الفرح بها ، بل يجب أن يكون فرحه بكرم المولى وفضله أكبر من فرحه بنفسه ، فثبت أن الفرح بالكرامة أكثر من فرحه بنفسه ، وثبت أن 
الفرح بالكرامة لا يحصل إلا إذا اعتقد أنه أهل ومستحق لها ، وهذا عين الجهل ؛ لأن الملائكة قالوا : ( 
لا علم لنا إلا ما علمتنا   ) ( البقرة : 32 ) وقال تعالى : ( 
وما قدروا الله حق قدره   ) ( الأنعام : 91 ) وأيضا قد ثبت بالبرهان اليقيني أنه لا حق لأحد من الخلق على الحق فكيف يحصل ظن الاستحقاق . 
الحجة الثانية : أن الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه ، فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق ، والفرح بغير الحق حجاب عن الحق ، والمحجوب عن الحق كيف يليق به الفرح والسرور ؟ 
الحجة الثالثة : أن من 
اعتقد في نفسه أنه صار مستحقا للكرامة بسبب عمله حصل لعمله وقع عظيم في قلبه ، ومن كان لعمله وقع عنده كان جاهلا ، ولو عرف ربه لعلم أن كل طاعات الخلق في جنب جلال الله تقصير ، وكل شكرهم في جنب آلائه ونعمائه قصور ، وكل معارفهم وعلومهم فهي في مقابلة عزته حيرة وجهل ، رأيت في بعض الكتب أنه قرأ المقرئ في مجلس 
الأستاذ أبي علي الدقاق  قوله تعالى : ( 
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه   ) ( فاطر : 10 ) فقال : علامة أن الحق رفع عملك أن لا يبقي ( ذكره ) عندك ، فإن بقي عملك في نظرك فهو مدفوع ، وإن لم يبق معك فهو مرفوع مقبول . 
الحجة الرابعة : أن صاحب الكرامة إنما وجد الكرامة لإظهار الذل والتواضع في حضرة الله ، فإذا 
ترفع وتجبر وتكبر بسبب تلك الكرامات ، فهذا طريق ثبوته يؤديه إلى عدمه ، فكان مردودا ، ولهذا المعنى لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مناقب نفسه وفضائلها كان يقول في آخر كل واحد منها ، ولا فخر ، يعني لا أفتخر بهذه الكرامات ، وإنما أفتخر بالمكرم والمعطي . 
الحجة الخامسة : أن ظاهر الكرامات في حق إبليس وفي حق 
بلعام  كان عظيما ثم قيل لإبليس : وكان من الكافرين ، وقيل 
لبلعام    : فمثله كمثل الكلب ، وقيل لعلماء 
بني إسرائيل    :   
[ ص: 81 ]   ( 
مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا   ) ( الجمعة : 5 ) وقيل أيضا في حقهم : ( 
وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم   ) ( آل عمران : 19 ) فبين أن وقوعهم في الظلمات والضلالات كان بسبب فرحهم بما أوتوا من العلم والزهد . 
الحجة السادسة : أن الكرامة غير المكرم ، وكل ما هو غير المكرم ، فهو ذليل وكل من تعزز بالذليل فهو ذليل ، ولهذا المعنى قال الخليل صلوات الله عليه : أما إليك فلا ، فالاستغناء بالفقير فقر ، والتقوي بالعاجز عجز ، والاستكمال بالناقص نقصان ، والفرح بالمحدث بله ، والإقبال بالكلية على الحق خلاص ، فثبت أن الفقير إذا ابتهج بالكرامة سقط عن درجته ، أما إذا كان لا يشاهد في الكرامات إلا المكرم ، ولا في الإعزاز إلا المعز ، ولا في الخلق إلا الخالق ، فهناك يحق الوصول . 
الحجة السابعة : أن 
الافتخار بالنفس وبصفاتها من صفات إبليس 
وفرعون  ، قال إبليس : ( 
أنا خير منه   ) ( الأعراف : 12 ) وقال 
فرعون    : ( 
أليس لي ملك مصر   ) ( الزخرف : 51 ) وكل من ادعى الإلهية أو النبوة بالكذب ، فليس له غرض إلا تزيين النفس وتقوية الحرص والعجب ، ولهذا قال عليه السلام : "ثلاث مهلكات ، وختمها بقوله : وإعجاب المرء بنفسه" . 
الحجة الثامنة : أنه تعالى قال : ( 
فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين   ) ( الأعراف : 144 ) ( 
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين   ) ( الحجر : 99 ) فلما أعطاه الله العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطي لا بالفرح بالعطية . 
الحجة التاسعة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما خيره الله بين أن يكون ملكا نبيا ، وبين أن يكون عبدا نبيا ترك الملك ، ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات ، بل من المعجزات ، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- ترك ذلك الملك واختار العبودية ؛ لأنه إذا كان عبدا كان افتخاره بمولاه ، وإذا كان ملكا كان افتخاره بعبيده ، فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها 
ابن مسعود    "وأشهد أن 
محمدا  عبده ورسوله" ، وقيل في المعراج : ( 
سبحان الذي أسرى بعبده   ) ( الإسراء : 1 ) . 
الحجة العاشرة : أن محب المولى غير ، ومحب ما للمولى غير ، فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى ، فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محبا للمولى ، بل كان محبا لنصيب نفسه ، ونصيب النفس إنما يطلب للنفس ، فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه ، وما كان المولى محبوبا له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب . والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى : ( 
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه   ) ( الجاثية : 23 ) فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر حتى أن المحققين قالوا : لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في 
عبادة النفس ، ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات . 
الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : ( 
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه   ) وهذا يدل على أن من لم 
يتق الله ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء   
[ ص: 82 ] من هذه الأفعال والأحوال .