صفحة جزء
( وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا )

قوله تعالى : ( وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا )

اعلم أن معنى قوله : ( وتحسبهم ) على ما ذكرناه في قوله : ( وترى الشمس ) أي لو رأيتهم لحسبتهم ( أيقاظا ) وهو جمع يقظ ويقظان ، قاله الأخفش وأبو عبيدة والزجاج ، وأنشدوا لرؤبة :


ووجدوا إخوانهم أيقاظا



[ ص: 86 ] ومثله قوله : نجد ونجدان وأنجاد ، وهم رقود أي نائمون ، وهو مصدر سمي المفعول به ، كما يقال : قوم ركوع وقعود وسجود يوصف الجمع بالمصدر ، ومن قال : إنه جمع راقد ، فقد أبعد ؛ لأنه لم يجمع فاعل على فعول ، قال الواحدي : وإنما يحسبون ( أيقاظا ) لأن أعينهم مفتحة ، وهم نيام ، وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم يظن أنهم أيقاظ ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ) واختلفوا في مقدار مدة التقليب ، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه - أن لهم في كل عام تقليبتين ، وعن مجاهد يمكثون على أيمانهم تسع سنين ، ثم يقلبون على شمائلهم ، فيمكثون رقودا تسع سنين ، وقيل : لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء ، وأقول : هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ، ولفظ القرآن لا يدل عليه ، وما جاء فيه خبر صحيح ، فكيف يعرف ؟ وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فائدة تقليبهم لئلا تأكل الأرض لحومهم ولا تبليهم .

وأقول : هذا عجيب ؛ لأنه تعالى لما قدر على أن يمسك حياتهم مدة ثلاثمائة سنة وأكثر ، فلم لا يقدر على حفظ أجسادهم أيضا من غير تقليب ؟ .

وقوله : ( ذات ) منصوبة على الظرف ؛ لأن المعنى ( ونقلبهم ) في ناحية ( اليمين ) أو على ناحية ( اليمين ) كما قلنا في قوله : ( تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) وقوله : ( وكلبهم باسط ذراعيه ) قال ابن عباس ، وأكثر المفسرين قالوا : إنهم هربوا ليلا من ملكهم ، فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه ، وقال كعب : مروا بكلب ، فنبح عليهم فطردوه ، فعاد ففعلوا مرارا ، فقال لهم الكلب : ما تريدون مني لا تخشوا جانبي ، أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم ، وقال عبيد بن عمير : كان ذلك كلب صيدهم ، ومعنى : ( باسط ذراعيه ) أي يلقيهما على الأرض مبسوطتين غير مقبوضتين ، ومنه الحديث في الصلاة : "أنه نهى عن افتراش السبع " وقال : "لا تفترش ذراعيك افتراش السبع" قوله : ( بالوصيد ) يعني فناء الكهف ، قال الزجاج : الوصيد فناء البيت وفناء الدار ، وجمعه وصائد ووصد ، وقال يونس والأخفش والفراء : الوصيد والأصيد لغتان مثل الوكاف والإكاف ، وقال السدي : ( بالوصيد ) الباب ، والكهف لا يكون له باب ولا عتبة ، وإنما أراد أن الكلب منه بموضع العتبة من البيت ، ثم قال : ( لو اطلعت عليهم ) أي أشرفت عليهم ، يقال : اطلعت عليهم أي أشرفت عليهم ، ويقال : أطلعت فلانا على الشيء فاطلع ، وقوله : ( لوليت منهم فرارا ) قال الزجاج قوله : ( فرارا ) منصوب على المصدر ؛ لأن معنى وليت منهم فررت : ( ولملئت منهم رعبا ) أي فزعا وخوفا ، قيل في التفسير : طالت شعورهم وأظفارهم وبقيت أعينهم مفتوحة وهم نيام ، فلهذا السبب لو رآهم الرائي لهرب منهم مرعوبا ، وقيل : إنه تعالى جعلهم بحيث كل من رآهم فزع فزعا شديدا ، فأما تفصيل سبب الرعب فالله أعلم به ، وهذا هو الأصح ، وقوله : ( ولملئت منهم رعبا ) قرأ نافع وابن كثير لملئت بتشديد اللام والهمزة ، والباقون بتخفيف اللام ، وروي عن ابن كثير بالتخفيف ، والمعنى واحد إلا أن في التشديد مبالغة ، قال الأخفش : الخفيفة أجود في كلام العرب ، يقال : ملأتني رعبا ، ولا يكادون يعرفون ملأتني ، ويدل على هذا أكثر استعمالهم كقوله :


فيملأ بيتنا أقطا وسمنا



[ ص: 87 ] وقول الآخر :


ومن مالئ عينيه من شيء غيره     إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى



وقال الآخر :


لا تملأ الدلو وعرق فيها



وقال الآخر :


امتلأ الحوض وقال قطني



وقد جاء التثقيل أيضا ، وأنشدوا للمخبل السعدي :


وإذا قتل النعمان بالناس محرما     فملأ من عوف بن كعب سلاسله



وقرأ ابن عامر والكسائي رعبا بضم العين في جميع القرآن ، والباقون بالإسكان .

التالي السابق


الخدمات العلمية