صفحة جزء
( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) .

قوله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) .

واعلم أنه تعالى لما قال من قبل : ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ) ثم قال : ( ثم لنحضرنهم حول جهنم ) أردفه بقوله : ( وإن منكم إلا واردها ) يعني جهنم واختلفوا ، فقال بعضهم : المراد من تقدم ذكره من الكفار فكنى عنهم أولا كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة ، قالوا : إنه لا يجوز للمؤمنين أن يردوا النار ، ويدل عليه أمور :

أحدها : قوله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها .

والثاني : قوله : ( لا يسمعون حسيسها ) [ الأنبياء : 102 ] ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها .

وثالثها : قوله : ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) [ النمل : 89 ] وقال الأكثرون : إنه عام في كل مؤمن وكافر لقوله تعالى : ( وإن منكم إلا واردها ) فلم يخص . وهذا الخطاب مبتدأ مخالف للخطاب الأول ، ويدل عليه قوله : ( ثم ننجي الذين اتقوا ) أي من الواردين من اتقى ولا يجوز أن يقال : ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) إلا والكل واردون والأخبار المروية دالة على هذا القول ، ثم هؤلاء اختلفوا في تفسير الورود فقال بعضهم : الورود الدنو من جهنم ، وأن يصيروا حولها وهو موضع المحاسبة ، واحتجوا على أن الورود قد يراد به القرب بقوله تعالى : ( فأرسلوا واردهم ) [ يوسف : 19 ] ومعلوم أن ذلك الوارد ما دخل الماء ، وقال تعالى : ( ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ) [ القصص : 23 ] وأراد به القرب . ويقال : وردت القافلة البلدة وإن لم تدخلها ، فعلى هذا معنى الآية أن الجن والإنس يحضرون حول [ ص: 208 ] جهنم : ( كان على ربك حتما مقضيا ) أي واجبا مفروغا منه بحكم الوعيد ثم ننجي أي نبعد الذين اتقوا عن جهنم ، وهو المراد من قوله تعالى : ( أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] ومما يؤكد هذا القول ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية " فقالت حفصة : أليس الله يقول : ( وإن منكم إلا واردها ) فقال - عليه السلام : " فمه ! ثم ننجي الذين اتقوا " ، ولو كان الورود عبارة عن الدخول لكان سؤال حفصة لازما .

القول الثاني : أن الورود هو الدخول ويدل عليه الآية والخبر ، أما الآية فقوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98 ] وقال : ( فأوردهم النار وبئس الورد المورود ) [ هود : 98 ] ويدل عليه قوله تعالى : ( أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] والمبعد هو الذي لولا التبعيد لكان قريبا ، فهذا إنما يحصل لو كانوا في النار ، ثم إنه تعالى يبعدهم عنها ، ويدل عليه قوله تعالى : ( ونذر الظالمين فيها جثيا ) وهذا يدل على أنهم يبقون في ذلك الموضع الذي وردوه وهم إنما يبقون في النار ، فلا بد وأن يكونوا قد دخلوا النار ، وأما الخبر فهو أن عبد الله بن رواحة قال : " أخبر الله عن الورود ولم يخبر بالصدور ، فقال - عليه السلام - : يابن رواحة اقرأ ما بعدها ثم ننجي الذين اتقوا " ، وذلك يدل على أن ابن رواحة فهم من الورود الدخول والنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أنكر عليه في ذلك ، وعن جابر : " أنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما حتى إن للناس ضجيجا من بردها " .

والقائلون بهذا القول يقولون : المؤمنون يدخلون النار من غير خوف وضرر البتة بل مع الغبطة والسرور ؛ وذلك لأن الله تعالى أخبر عنهم أنهم : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) [ الأنبياء : 103 ] ولأن الآخرة دار الجزاء لا دار التكليف ، وإيصال الغم والحزن إنما يجوز في دار التكليف ، ولأنه صحت الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أن الملائكة تبشر في القبر من كان من أهل الثواب بالجنة حتى يرى مكانه في الجنة ويعلمه " . وكذلك القول في حال المعاينة فكيف يجوز أن يردوا القيامة وهم شاكون في أمرهم ، وإنما تؤثر هذه الأحوال في أهل النار ؛ لأنهم لا يعلمون كونهم من أهل النار والعقاب ، ثم اختلفوا في أنه كيف يندفع عنهم ضرر النار ، فقال بعضهم : البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه ، ويكون من المواضع التي يسلك فيها إلى دركات جهنم ، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يدخل الكل في جهنم فالمؤمنون يكونون في تلك المواضع الخالية عن النار ، والكفار يكونون في وسط النار .

وثانيها : أن الله تعالى يخمد النار فيعبرها المؤمنون وتنهار بغيرهم ، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " يردونها كأنها إهالة " وعن جابر بن عبد الله : " أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا بأن نرد النار ؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة " .

وثالثها : أن حرارة النار ليست بطبعها فالأجزاء الملاصقة لأبدان الكفار يجعلها الله عليهم محرقة مؤذية والأجزاء الملاصقة لأبدان المؤمنين يجعلها الله بردا وسلاما عليهم ، كما في حق إبراهيم - عليه السلام - . وكما أن الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فكان يصير دما ، ويشربه الإسرائيلي فكان يصير ماء عذبا . واعلم أنه لا بد من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين ، فإن قيل : إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم النار ، فما الفائدة في ذلك الدخول ؟ قلنا فيه وجوه :

[ ص: 209 ] أحدها : أن ذلك مما يزيدهم سرورا إذا علموا الخلاص منه .

وثانيها : أن فيه مزيد غم على أهل النار ، حيث يرون المؤمنين الذين هم أعداؤهم يتخلصون منها وهم يبقون فيها .

وثالثها : أن فيه مزيد غم على أهل النار من حيث تظهر فضيحتهم عند المؤمنين بل وعند الأولياء ، وعند من كان يخوفهم من النار ، فما كانوا يلتفتون إليه .

ورابعها : أن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فزاد ذلك غما للكفار وسرورا للمؤمنين .

وخامسها : أن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر ويقيمون عليهم صحة الدلائل فما كانوا يقبلون تلك الدلائل ، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوا ، وأن المكذبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين .

وسادسها : أنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار ذلك سببا لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة كما قال الشاعر :


وبضدها تتبين الأشياء



فأما الذين تمسكوا بقوله تعالى : ( أولئك عنها مبعدون ) [ الأنبياء : 101 ] فقد بينا أنه أحد ما يدل على الدخول في جهنم وأيضا فالمراد عن عذابها وكذا قوله : ( لا يسمعون حسيسها ) [ الأنبياء : 102 ] فإن قيل : هل ثبت بالأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها إلى الجنة ؟ قلنا : ثبت بالأخبار أن المحاسبة تكون في الأرض أو حيث كانت الأرض ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض ) [ إبراهيم : 48 ] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء ففي موضع المحاسبة يكون الاجتماع ، فيدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ثم يرفع الله أهل الجنة وينجيهم ويدفع أهل النار فيها . أما قوله : ( كان على ربك حتما مقضيا ) فالحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمي المحتوم بالحتم كقولهم : خلق الله وضرب الأسير ، واحتج من أوجب العقاب عقلا فقال : إن قوله : ( كان على ربك حتما مقضيا ) يدل على وجوب ما جاء من جهة الوعيد والأخبار ؛ لأن كلمة على للوجوب والذي ثبت بمجرد الإخبار لا يسمى واجبا . والجواب أن وعد الله تعالى لما استحال تطرق الخلف إليه جرى مجرى الواجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية