صفحة جزء
المسألة الثانية : من الناس من قال : قوله : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) أي علمه صفات الأشياء ونعوتها وخواصها ، والدليل عليه أن الاسم اشتقاقه إما من السمة أو من السمو ، فإن كان من السمة كان الاسم هو العلامة ، وصفات الأشياء ونعوتها وخواصها دالة على ماهياتها ، فصح أن يكون المراد من الأسماء : الصفات ، وإن كان من السمو فكذلك ؛ لأن دليل الشيء كالمرتفع على ذلك الشيء ، فإن العلم بالدليل حاصل قبل العلم بالمدلول ، فكان الدليل أسمى في الحقيقة ، فثبت أنه لا امتناع في اللغة أن يكون المراد من الاسم الصفة ، بقي أن أهل النحو خصصوا لفظ الاسم بالألفاظ المخصوصة ، ولكن ذلك عرف حادث لا اعتبار به ، وإذا ثبت أن هذا التفسير ممكن بحسب اللغة وجب أن يكون هو المراد لا غيره ، لوجوه :

أحدها : أن الفضيلة في معرفة حقائق الأشياء أكثر من الفضيلة في معرفة أسمائها ، وحمل الكلام المذكور لإظهار الفضيلة على ما يوجب مزيد الفضيلة أولى من حمله على ما ليس كذلك .

وثانيها : أن التحدي إنما يجوز ويحسن بما يتمكن السامع من مثله في الجملة ، فإن من كان عالما باللغة والفصاحة ، يحسن أن يقول له غيره على سبيل التحدي : ائت بكلام مثل كلامي في الفصاحة ، أما العربي فلا يحسن منه أن يقول للزنجي في معرض التحدي : تكلم بلغتي ، وذلك لأن العقل لا طريق له إلى معرفة اللغات البتة : بل ذلك لا يحصل إلا بالتعليم ، فإن حصل التعليم ، حصل العلم به وإلا فلا ، أما العلم بحقائق الأشياء ، فالعقل متمكن من تحصيله فصح وقوع التحدي فيه .

القول الثاني : وهو المشهور ، أن المراد أسماء كل ما خلق الله من أجناس المحدثات من جميع اللغات المختلفة التي يتكلم بها ولد آدم اليوم من العربية والفارسية والرومية وغيرها ، وكان ولد آدم عليه السلام يتكلمون بهذه اللغات ، فلما مات آدم وتفرق ولده في نواحي العالم تكلم كل واحد منهم بلغة معينة من تلك اللغات ، فغلب عليه ذلك اللسان ، فلما طالت المدة ومات منهم قرن بعد قرن نسوا سائر اللغات ، فهذا هو السبب في تغير الألسنة في ولد آدم عليه السلام . قال أهل المعاني : قوله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء ) لا بد فيه من إضمار ، فيحتمل أن يكون المراد وعلم آدم أسماء المسميات ، ويحتمل أن يكون المراد وعلم آدم مسميات الأسماء ، قالوا : لكن الأول أولى ؛ لقوله : ( أنبئوني بأسماء هؤلاء ) وقوله تعالى : ( فلما أنبأهم بأسمائهم ) [البقرة : 33] ولم يقل : أنبئوني بهؤلاء وأنبأهم بهم ، فإن قيل : فلما علمه الله تعالى أنواع جميع المسميات ، وكان في المسميات ما لا يكون عاقلا ، فلم قال عرضهم ولم يقل عرضها ؟ قلنا : لأنه لما كان في جملتها الملائكة والإنس والجن وهم العقلاء ، فغلب الأكمل ؛ لأنه جرت عادة العرب بتغليب الكامل على الناقص كلما غلبوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية