صفحة جزء
( يح ) قيل : من العلماء من يضن بعلمه ، ولا يحب أن يوجد عند غيره فذاك في الدرك الأول من النار ، ومن العلماء من يكون في علمه بمنزلة السلطان ، فإن رد عليه شيء من حقه غضب ، فذاك في الدرك الثاني من النار ، ومن العلماء من يجعل حديثه وغرائب علمه لأهل الشرف واليسار ، ولا يرى الفقراء له أهلا ، فذاك في الدرك الثالث من النار ، ومن العلماء من كان معجبا بنفسه إن وعظ عنف ، وإن وعظ أنف ، فذاك في الدرك الرابع من النار .

ومن العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتي خطأ ، فذاك في الدرك الخامس من النار ، ومن العلماء من يتعلم كلام المبطلين فيمزجه بالدين فهو في الدرك السادس من النار ، ومن العلماء من يطلب العلم لوجوه الناس فذاك في الدرك السابع من النار .

( يط ) قال الفقيه أبو الليث : من جلس مع ثمانية أصناف من الناس زاده الله ثمانية أشياء ، من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبة فيها ، ومن جلس مع الفقراء جعل الله له الشكر والرضا بقسمة الله ، ومن جلس مع السلطان زاده الله القسوة والكبر ، ومن جلس مع النساء زاده الله الجهل والشهوة ، ومن جلس مع الصبيان ازداد من اللهو والمزاح ، ومن جلس مع الفساق ازداد من الجرأة على الذنوب وتسويف التوبة ، ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات ، ومن جلس مع العلماء ازداد العلم والورع .

( يي ) إن الله علم سبعة نفر سبعة أشياء : ( أ ) علم آدم الأسماء ( وعلم آدم الأسماء كلها ) .

( ب ) علم الخضر الفراسة ( وعلمناه من لدنا علما ) [الكهف : 65] . ( ج ) وعلم يوسف علم التعبير ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ) [يوسف : 101] .

( د ) علم داود صنعة الدرع ( وعلمناه صنعة لبوس لكم ) [الأنبياء : 80] .

( ه ) علم سليمان منطق الطير ( ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) [النمل : 16] .

( و ) علم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ) [آل عمران : 48] .

( ز ) وعلم محمدا صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) [النساء : 113] ، ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) [البقرة : 129] ، ( الرحمن علم القرآن ) [الرحمن : 1 - 2] . فعلم آدم كان سببا له في حصول السجدة والتحية ، وعلم الخضر كان سببا لأن وجد تلميذا مثل موسى ويوشع عليهما السلام ، وعلم يوسف كان سببا لوجدان الأهل والمملكة ، وعلم داود كان سببا لوجدان الرياسة والدرجة ، وعلم سليمان كان سببا لوجدان بلقيس والغلبة ، وعلم عيسى كان سببا لزوال التهمة عن أمه ، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم كان سببا لوجود الشفاعة ، ثم نقول : من علم أسماء المخلوقات وجد التحية من الملائكة ، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة ؟ بل يجد تحية الرب ( سلام قولا من رب رحيم ) [يس : 58] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى ، فيا أمة الحبيب بعلم الحقيقة كيف لا تجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ) [النساء : 69] ، ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا ، فمن كان عالما بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشهوات ( ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) [يونس : 25] وأيضا فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال : ( وعلمتني من تأويل الأحاديث ) [يوسف : 101] .

فأنت يا عالم أما تذكر منة الله على نفسك حيث علمك تفسير كتابه ؟ فأي نعمة أجل مما أعطاك الله ؟! حيث جعلك مفسرا لكلامه ، وسميا لنفسه ، ووارثا لنبيه ، وداعيا لخلقه ، وواعظا لعباده ، وسراجا لأهل بلاده ، وقائدا للخلق إلى جنته وثوابه ، وزاجرا لهم عن ناره وعقابه ، كما جاء في الحديث : العلماء سادة ، والفقهاء قادة ، ومجالستهم زيادة

( كا ) المؤمن لا يرغب في طلب العلم حتى يرى ست خصال من نفسه . أحدها : أن يقول : إن الله [ ص: 170 ] أمرني بأداء الفرائض ، وأنا لا أقدر على أدائها إلا بالعلم .

الثانية : أن يقول : نهاني عن المعاصي وأنا لا أقدر على اجتنابها إلا بالعلم .

الثالثة : أنه تعالى أوجب علي شكر نعمه ولا أقدر عليه إلا بالعلم .

والرابعة : أمرني بإنصاف الخلق وأنا لا أقدر أن أنصفهم إلا بالعلم .

والخامسة : أن الله أمرني بالصبر على بلائه ولا أقدر عليه إلا بالعلم .

والسادسة : أن الله أمرني بالعداوة مع الشيطان ولا أقدر عليها إلا بالعلم .

( كب ) طريق الجنة في أيدي أربعة : العالم والزاهد والعابد والمجاهد ، فالزاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الأمن ، والعابد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الخوف ، والمجاهد إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الثناء والحمد ، والعالم إذا كان صادقا في دعواه يرزقه الله الحكمة .

( كج ) اطلب أربعة من أربعة : من الموضع السلامة ، ومن الصاحب الكرامة ، ومن المال الفراغة ، ومن العلم المنفعة ، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه ، وإذا لم تجد من صاحبك الكرامة فالكلب خير منه ، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه ، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه .

( كد ) لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء : لا يتم الدين إلا بالتقوى ، ولا يتم القول إلا بالفعل ، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع ، ولا يتم العلم إلا بالعمل ، فالدين بلا تقوى على الخطر ، والقول بلا فعل كالهدر ، والمروءة بلا تواضع كشجر بلا ثمر ، والعلم بلا عمل كغيث بلا مطر .

( كه ) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لجابر بن عبد الله الأنصاري : قوام الدنيا بأربعة بعالم يعمل بعلمه ، وجاهل لا يستنكف من تعلمه ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه ، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه ، فالويل لهم والثبور سبعين مرة .

( كو ) قال الخليل : الرجال أربعة رجل يدري ، ويدري أنه يدري فهو عالم فاتبعوه ، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فهو نائم فأيقظوه ، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فهو مسترشد فأرشدوه ، ورجل لا يدري ، ولا يدري أنه لا يدري فهو شيطان فاجتنبوه .

( كز ) أربعة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها ، وإن كان أميرا : قيامه من مجلسه لأبيه ، وخدمته لضيفه ، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه ، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه .

( كح ) إذا اشتغل العلماء بجمع الحلال صار العوام آكلين للشبهات ، وإذا صار العالم آكلا للشبهات صار العامي آكلا للحرام ، وإذا صار العالم آكلا للحرام صار العامي كافرا يعني إذا استحلوا .

أما الوجوه العقلية فأمور : أحدها : أن الأمور على أربعة أقسام ، قسم يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة ، وقسم ترضاه الشهوة ، ولا يرضاه العقل ، وقسم يرضاه العقل والشهوة معا ، وقسم لا يرضاه العقل ولا ترضاه الشهوة .

أما الأول : فهو الأمراض والمكاره في الدنيا .

وأما الثاني : فهو المعاصي أجمع .

وأما الثالث : فهو العلم .

وأما الرابع : فهو الجهل ، فينزل العلم من الجهل منزلة الجنة من النار ، فكما أن العقل والشهوة لا يرضيان بالنار فكذلك لا يرضيان بالجهل ، وكما أنهما يرضيان بالجنة فكذا يرضيان بالعلم ، فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة ، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة ، فكل من اختار العلم [ ص: 171 ] يقال له : تعودت المقام في الجنة فادخل الجنة ، ومن اكتفى بالجهل يقال له : تعودت النار فادخل النار ، والذي يدل على أن العلم جنة ، والجهل نار أن كمال اللذة في إدراك المحبوب ، وكمال الألم في البعد عن المحبوب ، والجراحة إنما تؤلم ؛ لأنها تبعد جزءا من البدن عن جزء محبوب من تلك الأجزاء وهو الاجتماع ، فلما اقتضت الجراحة إزالة ذلك الاجتماع ، فقد اقتضت إزالة المحبوب وبعده ، فلا جرم كان ذلك مؤلما ، والإحراق بالنار إنما كان أشد إيلاما من الجرح ؛ لأن الجرح لا يفيد إلا تبعيد جزء معين عن جزء معين ، أما النار فإنها تغوص في جميع الأجزاء فاقتضت تبعيد جميع الأجزاء بعضها عن بعض ، فلما كانت التفريقات في الإحراق أشد كان الألم هناك أصعب ، أما اللذة فهي عبارة عن إدراك المحبوب ، فلذة الأكل عبارة عن إدراك تلك الطعوم لموافقة للبدن ، وكذلك لذة النظر إنما تحصل ؛ لأن القوة الباصرة مشتاقة إلى إدراك المرئيات ، فلا جرم كان ذلك الإدراك لذة لها ، فقد ظهر بهذا أن اللذة عبارة عن إدراك المحبوب ، والألم عبارة عن إدراك المكروه ، وإذا عرفت هذا فنقول : كلما كان الإدراك أغوص وأشد ، والمدرك أشرف وأكمل ، والمدرك أنقى وأبقى ، وجب أن تكون اللذة أشرف وأكمل .

ولا شك أن محمل العلم هو الروح وهو أشرف من البدن ، ولا شك أن الإدراك العقلي أغوص وأشرف على ما سيجيء بيانه في تفسير قوله : ( الله نور السماوات والأرض ) [النور : 35] . وأما المعلوم فلا شك أنه أشرف ؛ لأنه هو الله رب العالمين وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والجمادات والنبات والحيوانات ، وجميع أحكامه وأوامره وتكاليفه وأي معلوم أشرف من ذلك ، فثبت أنه لا كمال ، ولا لذة فوق كمال العلم ولذاته ، ولا شقاوة ولا نقصان فوق شقاوة الجهل ونقصانه ، ومما يدل على ما قلناه أنه إذا سئل الواحد منا عن مسألة علمية ، فإن علمها وقدر على الجواب والصواب فيها فرح بذلك وابتهج به ، وإن جهلها نكس رأسه حياء من ذلك ، وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بالعلم أكمل اللذات ، والشقاء الحاصل بالجهل أكمل أنواع الشقاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية