صفحة جزء
( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

قوله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون )

اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعرى لما أورد ذلك السؤال على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقي ساكتا حتى أنزل الله تعالى هذه الآية جوابا عن سؤاله ؛ لأن هذه الآية كالاستثناء من تلك الآية ، وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول ، وذكرنا أن سؤاله لم يكن واردا ، وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية ، وإذا ثبت هذا لم يبق هاهنا إلا أحد أمرين :

الأول : أن يقال : إن عادة الله تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار ، فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين .

الثاني : أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعرى ، ثم من قال : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وهو الحق ، أجراها على عمومها ؛ فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها ، لا أن [ ص: 196 ] الآية مختصة بهم ، ومن قال : العبرة بخصوص السبب خصص قوله : ( إن الذين ) بهؤلاء فقط .

أما قوله تعالى : ( سبقت لهم منا الحسنى ) فقال صاحب " الكشاف " : الحسنى الخصلة المفضلة ، والحسنى تأنيث الأحسن ، وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب ، وإما التوفيق للطاعة ، والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ، ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب ، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمورا خمسة :

أحدها قوله : ( أولئك عنها مبعدون ) فقال أهل العفو : معناه أولئك عنها مخرجون ، واحتجوا عليه بوجهين :

الأول قوله : ( وإن منكم إلا واردها ) أثبت الورود وهو الدخول ، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج .

الثاني : أن إبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين ؛ لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر ؛ لأن تحصيل الحاصل محال .

واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور :

أحدها : أن قوله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك .

وثانيها : أنه تعالى قال : ( أولئك عنها مبعدون ) وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها .

وثالثها : قوله تعالى : ( لا يسمعون حسيسها ) وقوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) يمنع من ذلك .

والجواب عن الأول : لا نسلم أن [ يقال ] المراد من قوله : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ) هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم ، ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو ؟ سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب ، لكن لم قلتم : إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار ، فإن عندنا المحابطة باطلة ، ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب ، وعن الثاني : أنا بينا أن قوله : ( أولئك عنها مبعدون ) لا يمكن إجراؤه على ظاهره إلا في حق من كان في النار ، وعن الثالث : أن قوله : ( لا يسمعون حسيسها ) مخصوص بما بعد الخروج .

أما قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) فالفزع الأكبر هو عذاب الكفار ، وهذا بطريق المفهوم يقتضي أنهم يحزنهم الفزع الأصغر ، فإن لم يدل عليه فلا أقل من أن لا يدل على ثبوته ولا على عدمه .

الوجه الثاني : في تفسير قوله : ( أولئك عنها مبعدون ) أن المراد الذين سبقت لهم منا الحسنى لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة ، وعلى هذا القول بطل قول من يقول : إن جميع الناس يردون النار ثم يخرجون إلى الجنة ؛ لأن هذه الآية مانعة منه ، وحينئذ يجب التوفيق بينه وبين قوله : ( وإن منكم إلا واردها ) وقد تقدم .

الصفة الثانية : قوله تعالى : ( لا يسمعون حسيسها ) والحسيس الصوت الذي يحس ، وفيه سؤالان :

الأول : أي وجه في أن لا يسمعوا حسيسها من البشارة ، ولو سمعوه لم يتغير حالهم ؟

قلنا : المراد تأكيد بعدهم عنها ؛ لأن من لم يدخلها وقرب منها قد يسمع حسيسها .

السؤال الثاني : أليس أن أهل الجنة يرون أهل النار ، فكيف لا يسمعون حسيس النار ؟

الجواب : إذا حملناه على التأكيد زال هذا السؤال .

الصفة الثالثة : قوله : ( وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون ) والشهوة طلب النفس للذة ، يعني : نعيمها مؤبد ، قال العارفون : للنفوس شهوة ، وللقلوب شهوة ، وللأرواح شهوة ، وقال الجنيد : سبقت العناية في البداية ، فظهرت الولاية في النهاية .

الصفة الرابعة : قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) وفيه وجوه :

أحدها : أنها النفخة الأخيرة لقوله تعالى : ( ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض ) [ النمل : 87 ] .

وثانيها : أنه الموت ، قالوا : إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، بعث الله تعالى جبريل عليه السلام ومعه الموت في صورة كبش أملح فيقول : لأهل الدارين أتعرفون هذا ؟ فيقولون : لا ، فيقول : هذا الموت ، ثم يذبحه ؛ ثم ينادي يا أهل الجنة ، خلود ولا موت أبدا ، وكذلك لأهل النار ، [ ص: 197 ] واحتج هذا القائل بأن قوله : ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) إنما ذكر بعد قوله : ( وهم فيها خالدون ) فلا بد وأن يكون لأحدهما تعلق بالآخر ، والفزع الأكبر الذي هو ينافي الخلود هو الموت .

وثالثها : قال سعيد بن جبير : هو إطباق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة ، قال القاضي عبد الجبار : الأولى في ذلك أنه الفزع من النار عند مشاهدتها ؛ لأنه لا فزع أكبر من ذلك ، فإذا بين تعالى أن ذلك لا يحزنهم فقد صح أن المؤمن آمن من أهوال يوم القيامة ، وهذا ضعيف ؛ لأن عذاب النار على مراتب فعذاب الكفار أشد من عذاب الفساق ، وإذا كانت مراتب التعذيب بالنار متفاوتة كانت مراتب الفزع منها متفاوتة ، فلا يلزم من نفي الفزع الأكبر نفي الفزع من النار .

الصفة الخامسة : قوله : ( وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) قال الضحاك : هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم وأقوالهم ، ويقولون لهم مبشرين : ( هذا يومكم الذي كنتم توعدون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية