صفحة جزء
( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )

قوله تعالى : ( وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون )

اعلم أنه سبحانه لما أدب رسوله بقوله: ( ادفع بالتي هي أحسن السيئة ) أتبعه بما به يقوى على ذلك ، وهو الاستعاذة بالله من أمرين، أحدهما: من همزات الشياطين، والهمزات جمع الهمزة، وهو الدفع والتحريك الشديد، وهو كالهز والأز، ومنه مهماز الرائض، وهمزاته هو كيده بالوسوسة، ويكون ذلك منه في الرسول بوجهين.

أحدهما: بالوسوسة، والآخر بأن يبعث أعداءه على إيذائه، وكذلك القول في المؤمنين; لأن الشيطان يكيدهم بهذين الوجهين، ومعلوم أن من ينقطع إلى الله تعالى ويسأله أن يعيذه من الشيطان، فإنه يجب أن يكون متذكرا متيقظا فيما يأتي ويذر، فيكون نفس هذا الانقطاع إلى الله تعالى داعية إلى التمسك بالطاعة وزاجرا عن المعصية، قال الحسن : كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة: " لا إله إلا الله . ثلاثا، الله أكبر . ثلاثا، اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه، فقيل: يا رسول الله وما همزه؟ قال: الموتة التي تأخذ ابن آدم -أي: الجنون الذي يأخذ ابن آدم- قيل: فما نفثه؟ قال: الشعر. قيل: فما نفخه؟ قال: الكبر ".

وثانيها: قوله : ( وأعوذ بك رب أن يحضرون ) وفيه وجهان.

أحدهما: أن يحضرون عند قراءة القرآن; لكي يكون متذكرا فيقل سهوه.

وقال آخرون: بل استعاذ بالله من نفس حضورهم; لأنه الداعي إلى وسوستهم، كما يقول المرء: أعوذ بالله من خصومتك, بل أعوذ بالله من لقائك، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اشتكى إليه رجل أرقا يجده فقال: " إذا أردت النوم فقل : أعوذ بالله وبكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده [ ص: 104 ] ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ".

أما قوله : ( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى: قال صاحب "الكشاف" (حتى) متعلق بـ (يصفون) أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض، والتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم. والله أعلم.

المسألة الثانية: اختلفوا في قوله: ( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) فالأكثرون على أنه راجع إلى الكفار ، وقال الضحاك : كنت جالسا عند ابن عباس ، فقال: من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة عند الموت، فقال واحد: إنما يسأل ذلك الكفار ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا أقرأ عليك به قرآنا ( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق ) [المنافقون: 10] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء كان يمنعه من حقه بين يديه ، فعنده يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت " والأقرب هو الأول ، إذا عرف المؤمن منزلته في الجنة، فإذا شاهدها لا يتمنى أكثر منها، ولولا ذلك لكان أدونهم ثوابا يغتم بفقد ما يفقد من منزلة غيره، وأما ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من قوله : ( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت ) فهو إخبار عن حال الحياة في الدنيا لا عن حال الثواب, فلا يلزم على ما ذكرنا .

المسألة الثالثة: اختلفوا في وقت مسألة الرجعة فالأكثرون على أنه يسأل في حال المعاينة; لأنه عندها يضطر إلى معرفة الله تعالى وإلى أنه كان عاصيا، ويصير ملجأ إلى أنه لا يفعل القبيح بأن يعلمه الله تعالى أنه لو رامه لمنع منه، ومن هذا حاله يصير كالممنوع من القبائح بهذا الإلجاء، فعند ذلك يسأل الرجعة، ويقول: ( رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ) وقال آخرون: بل يقول ذلك عند معاينة النار في الآخرة، ولعل هذا القائل إنما ترك ظاهر هذه الآية لما أخبر الله تعالى في كتابه عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة، لكن ذلك مما لا يمنع أن يكونوا سائلين الرجعة في حال المعاينة، والله تعالى يقول: ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ) فعلق قولهم هذا بحال حضور الموت, وهو حال المعاينة ، فلا وجه لترك هذا الظاهر.

المسألة الرابعة: اختلفوا في قوله سبحانه وتعالى: ( ارجعون ) من المراد به؟ فقال بعضهم: الملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة، فلذلك ذكره بلفظ الجمع، وقال آخرون: بل المراد هو الله تعالى ; لأن قوله: (رب) بمنزلة أن يقول: يا رب، وإنما ذكر بلفظ الجمع للتعظيم كما يخاطب العظيم بلفظه فيقول: فعلنا وصنعنا ، وقال الشاعر:


فإن شئت حرمت النساء سواكم



ومن يقول بالأول يجعل ذكر الرب للقسم، فكأنه عند المعاينة قال: بحق الرب ارجعون. وهاهنا سؤالات:

السؤال الأول: كيف يسألون الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة، ومن الدين أن لا رجعة؟ الجواب: أنه وإن كان كذلك فلا يمتنع أن يسألوه; لأن الاستعانة بهذا الجنس من المسألة تحسن وإن علم أنه [ ص: 105 ] لا يقع، فأما إرادته للرجعة فلا يمتنع أيضا على سبيل ما يفعله المتمني.

السؤال الثاني: ما معنى قوله : ( لعلي أعمل صالحا ) أفيجوز أن يسأل الرجعة مع الشك؟ الجواب: ليس المراد بـ (لعل) الشك; فإنه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة ، إن أعطي ما سأل، بل هو مثل من قصر في حق نفسه وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير فيقول: مكنوني من التدارك لعلي أتدارك ، فيقول هذه الكلمة مع كونه جازما بأنه سيتدارك، ويحتمل أيضا أن الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين، فقد قال تعالى : ( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ) [الأنعام: 28].

السؤال الثالث: ما المراد بقوله : (فيما تركت )؟ الجواب: قال بعضهم: فيما خلفت من المال؛ ليصير عند الرجعة مؤديا لحق الله تعالى منه، والمعقول من قوله : ( تركت ) التركة. وقال آخرون: بل المراد أعمل صالحا فيما قصرت فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق، وهذا أقرب ، كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه، ويطيعوا في كل ما عصوا.

السؤال الرابع: ما المراد بقوله : (كلا )؟ الجواب: فيه قولان، أحدهما: أنه كالجواب لهم في المنع مما طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المستبعد: هيهات، روي أنه عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها: " إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا؟ فيقول: إلى دار الهموم والأحزان؟ لا بل قدوما على الله، وأما الكافر فيقال له : نرجعك؟ فيقول: ارجعون. فيقال له: إلى أي شيء ترغب; إلى جمع المال أو غرس الغراس أو بناء البنيان أو شق الأنهار؟ فيقول: لعلي أعمل صالحا فيما تركت، فيقول الجبار: كلا " الثاني: يحتمل أن يكون على وجه الإخبار بأنهم يقولون ذلك، وأن هذا الخبر حق ، فكأنه قال: حقا إنها كلمة هو قائلها، والأقرب الأول.

أما قوله : ( إنها كلمة هو قائلها ) ففيه وجهان.

الأول: أنه لا يخليها ولا يسكت عنها؛ لاستيلاء الحسرة عليه.

الثاني: أنه قائلها وحده ولا يجاب إليها ولا يسمع منه.

أما قوله تعالى : ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) فالبرزخ هو الحاجز والمانع ، كقوله في البحرين ( بينهما برزخ لا يبغيان ) [الرحمن: 20] أي: فهؤلاء صائرون إلى حالة مانعة من التلافي حاجزة عن الاجتماع وذلك هو الموت، وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث، إنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.

التالي السابق


الخدمات العلمية