صفحة جزء
البحث السادس: في كيفية إقامة الحد، أما الجلد، فاعلم أن المذكور في الآية هو الجلد، وهذا مشترك بين الجلد الشديد والجلد الخفيف، والجلد على كل الأعضاء أو على بعض الأعضاء، فحينئذ لا يكون في الآية إشعار بشيء من هذه القيود، بل مقتضى الآية أن يكون الآتي بالجلد كيف كان خارجا عن العهدة; لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج من العهدة، قال صاحب "الكشاف": وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم، ولأن الجلد ضرب الجلد، يقال: جلده ، كقولك: ظهره ، بفتح الهاء ، وبطنه ورأسه، إلا أنا لما عرفنا أن المقصود منه الزجر, والزجر لا يحصل إلا بالجلد الخفيف, لا جرم تكلم العلماء في صفة الجلد على سبيل القياس . ثم هاهنا مسائل :

المسألة الأولى: المحصن يجلد مع ثيابه ولا يجرد، ولكن ينبغي أن يكون بحيث يصل الألم إليه، وينزع من ثيابه الحشو والفرو. روى أبو عبيدة بن الجراح أنه أتي برجل في حد, فذهب الرجل ينزع قميصه، وقال: ما ينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص، فقال أبو عبيدة : لا تدعوه ينزع قميصه ، فضربه عليه . أما المرأة فلا خلاف في أنه لا يجوز تجريدها، بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف، ويلي ذلك منها امرأة.

المسألة الثانية: لا يمد ولا يربط بل يترك حتى يتقي بيديه، ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة. قال أبو يوسف رحمه الله: ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة .

المسألة الثالثة: يضرب بسوط وسط لا جديد يجرح ولا خلق لم يؤلم، ويضرب ضربا بين ضربين ، لا شديد ولا واه. روى أبو عثمان النهدي قال: أتي عمر برجل في حد ثم جيء بسوط فيه شدة، فقال: أريد ألين من هذا، فأتي بسوط فيه لين، فقال: أريد أشد من هذا، فأتي بسوط بين السوطين فرضي به .

المسألة الرابعة: تفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد، واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج، ويضرب على الرأس عند الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا [ ص: 128 ] يضرب على الرأس، وهو قول على حجة الشافعي رحمه الله. قال أبو بكر : أضرب على الرأس فإن الشيطان فيه . وعن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات ، على وجه التعنت، حجة أبي حنيفة رحمه الله : أجمعنا على أنه لا يضرب على الوجه فكذا الرأس، والجامع الحكم والمعنى. أما الحكم فلأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه، بدليل أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه واحد، وفارقا سائر البدن; لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما يجب فيها حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه، فوجب استواء الرأس والوجه في وجوب صونهما عن الضرب.

وأما المعنى فهو إنما منع من ضرب الوجه لما كان فيه من الجناية على البصر، وذلك موجود في الرأس; لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر، وربما حدث منه الماء في العين، وربما حدث منه اختلاط العقل. أجاب أصحابنا عنه بأن الفرق بين الوجه والرأس ثابت; لأن الضربة إذا وقعت على الوجه، فعظم الجبهة رقيق فربما انكسر بخلاف عظم القفا، فإنه في نهاية الصلابة، وأيضا فالعين في نهاية اللطافة، فالضرب عليها يورث العمى، وأيضا فالضرب على الوجه يكسر الأنف; لأنه من غضروف لطيف، ويكسر الأسنان لأنها عظام لطيفة، ويقع على الخدين وهما لحمان قريبان من الدماغ، والضربة عليهما في نهاية الخطر لسرعة وصول ذلك الأثر إلى جرم الدماغ، وكل ذلك لم يوجد في الضرب على الرأس.

المسألة الخامسة: لو فرق سياط الحد تفريقا لا يحصل به التنكيل، مثل أن يضرب كل يوم سوطا أو سوطين لا يحسب، وإن ضرب كل يوم عشرين أو أكثر يحسب، والأولى أن لا يفرق.

التالي السابق


الخدمات العلمية