صفحة جزء
المسألة الثانية : في تعدد القذف ; اعلم أنه إما أن يقذف شخصا واحدا مرارا أو يقذف جماعة ، فإن قذف واحدا مرارا نظر إن كان أراد بالكل زانية واحدة بأن قال : زنيت بعمرو قاله مرارا لا يجب إلا حد واحد ، ولو أنشأ الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني ، وإن قذفها بزنيات مختلفة بأن قال زنيت بزيد ، ثم قال زنيت بعمرو ، فهل يتعدد الحد أم لا ؟ فيه قولان : أحدهما : يتعدد اعتبارا باللفظ ولأنه من حقوق العباد فلا يقع فيه التداخل كالديون والثاني : وهو الأصح يتداخل فلا يجب فيه إلا حد واحد لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فوجب أن يتداخل كحدود الزنا ، ولو قذف زوجته مرارا ، فالأصح أنه يكتفي بلعان واحد سواء قلنا يتعدد الحد أو لا يتعدد . أما إذا قذف جماعة معدودين نظر ، إن قذف كل واحد بكلمة يجب عليه لكل واحد حد كامل ، وعند أبي حنيفة رحمه الله : لا يجب عليه إلا حد واحد . واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بالقرآن والسنة والقياس .

أما القرآن فهو قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ) والمعنى أن كل أحد يرمي المحصنات وجب عليه الجلد ، وذلك يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية .

وأما السنة : فما روى عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ، فقال النبي عليه السلام : " لا ، البينة أو حد في ظهرك " فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على هلال إلا حدا واحدا مع قذفه لامرأته ولشريك بن سحماء ، إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات .

وأما القياس : فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مرارا لم يجب إلا حد واحد كمن زنى مرارا أو شرب مرارا أو سرق مرارا فكذا هاهنا ، والمعنى الجامع دفع مزيد الضرر، والجواب عن الأول : أن قوله : ( والذين ) صيغة جمع ، وقوله : ( المحصنات ) صيغة جمع ، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى : كل من رمى محصنا واحدا وجب عليه الحد ، وعند ذلك يظهر وجه تمسك الشافعي رحمه الله بالآية ، ولأن قوله : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ) [ النور : 4 ] يدل على ترتيب الجلد على رمي المحصنات وترتيب الحكم على الوصف ، لا سيما إذا كان مناسبا فإنه مشعر بالعلية ، فدلت الآية على أن رمي المحصن من حيث إنه هذا المسمى يوجب الجلد ، إذا ثبت هذا فنقول : إذا قذف واحدا صار ذلك القذف موجبا للحد ، فإذا قذف الثاني وجب أن يكون القذف الثاني موجبا للحد أيضا ، ثم موجب القذف الثاني لا يجوز أن يكون هو الحد الأول لأن ذلك قد وجب بالقذف الأول وإيجاب الواجب محال ، فوجب أن يحد بالقذف الثاني حدا ثانيا ، أقصى ما في الباب أن يورد على هذه الدلالة حدود الزنا . لكنا نقول ترك العمل هناك بهذا الدليل لأن حد الزنا أغلظ من حد القذف ، وعند ظهور الفارق يتعذر الجمع .

وأما السنة فلا دلالة فيها على هذه المسألة لأن قذفهما بلفظ واحد ، ولنا في هذه المسألة تفصيل سيأتي إن شاء الله .

[ ص: 135 ] وأما القياس ففاسد لأن حد القذف حق الآدمي . بدليل أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وحقوق الآدمي لا تتداخل بخلاف حد الزنا ، فإنه حق الله تعالى . هذا كله إذا قذف جماعة كل واحد منهم بكلمة على حدة . أما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال أنتم زناة أو زنيتم ، ففيه قولان أصحهما وهو قوله في " الجديد " : يجب لكل واحد حد كامل لأنه من حقوق العباد فلا يتداخل ، ولأنه أدخل على كل واحد منهم معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات . وفي " القديم " لا يجب للكل إلا حد واحد اعتبارا باللفظ ، فإن اللفظ واحد والأول أصح لأنه أوفق لمفهوم الآية . فعلى هذا لو قال لرجل يا ابن الزانيين يكون قذفا لأبويه بكلمة واحدة فعليه حدان .

التالي السابق


الخدمات العلمية