1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة النور
  4. قوله تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه
صفحة جزء
[ ص: 36 ] أما قوله : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الأخفش : "عن" صلة والمعنى يخالفون أمره ، وقال غيره : معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته ، فدخلت "عن" لتضمين المخالفة معنى الإعراض .

المسألة الثانية : كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى ، لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية ، وقال أبو بكر الرازي : الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه ، وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها .

المسألة الثالثة : الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب ، ووجه الاستدلال به أن نقول : تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ، ومخالف الأمر مستحق للعقاب ، فتارك المأمور به مستحق للعقاب ، ولا معنى للوجوب إلا ذلك ، إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ؛ لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ، والمخالفة ضد الموافقة ، فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه ، فثبت أن تارك المأمور به مخالف ، وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب ، والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب ، فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب ، فإن قيل : لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر ، قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ، ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه ، قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ، فما الدليل عليه ؟ ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين :

أحدهما : أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر ، فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب ، وأنت تأتي به على سبيل الوجوب ، كان ذلك مخالفة للأمر .

الثاني : أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقا واجب القبول ، فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقا واجب القبول ، سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر ، وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى ، وذلك باطل ، وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية ، سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر ، فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) ؟ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر ، بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر ، فلم لا يجوز أن يكون كذلك ؟ سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر ، فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر ؟ فإن قلت لفظة "عن" صلة زائدة ، فنقول : الأصل في الكلام لا سيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائدا ، سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب ، فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب ؟ أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به ، لكن لم قلت إن الأمر للوجوب ؟ وهذا أول المسألة ، فإن قلت : هب أنه لا يدل على وجوب الحذر ، لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر ، وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب . قلت : لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب ، بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ؛ ولهذا يحسن الاحتياط ، وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية ، سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول [ ص: 37 ] العقاب ، لكن لا في كل أمر ، بل في أمر واحد ؛ لأن قوله ( عن أمره ) لا يفيد إلا أمرا واحدا ، وعندنا أن أمرا واحدا يفيد الوجوب ، فلم قلت إن كل أمر كذلك ؟ سلمنا أن كل أمر كذلك ، لكن الضمير في قوله : ( عن أمره ) يحتمل عوده إلى الله تعالى ، وعوده إلى الرسول ، والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما ، فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك ؟

الجواب : قوله : لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ؟ قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال : إن هذا العبد موافق للسيد ، ويجري على وفق أمره ، ولو لم يمتثل أمره يقال : إنه ما وافقه بل خالفه ، وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة ، فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه . قوله : الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر ، قلنا : لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر ، فنقول : لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله : "افعل" لا يدل إلا على اقتضاء الفعل ، وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر ، فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة . قوله : "الموافقة" عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقا واجب القبول ، قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر ، بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق ، فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه ، فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل ، أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول ، وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود ، فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه . قوله : لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفا فوجب أن يستحق العقاب ، قلنا : هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأمورا به وهو ممنوع ، قوله : لم لا يجوز أن يكون قوله : ( فليحذر ) أمرا بالحذر عن المخالف لا أمرا للمخالف بالحذر ؟ قلنا : لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذا عن الذين يخالفون أمره ، وحينئذ يبقى قوله : ( أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ضائعا لأن الحذر ليس فعلا يتعدى إلى مفعولين . قوله : كلمة "عن" ليست بزائدة ، قلنا : ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى . قوله : لم قلتم إن قوله : ( فليحذر ) يدل على وجوب الحذر عن العقاب ؟ قلنا : لا ندعي وجوب الحذر ، ولكن لا أقل من جواز الحذر ، وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب . قوله : لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب ؟ قلنا : لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللا به ، فيلزم عمومه لعموم العلة . قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب ، فلم قلتم إن الأمر كذلك ؟ قلنا : لأنه لا قائل بالفرق والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية