صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا ) ففيه مسائل : [ ص: 56 ] المسألة الأولى : معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم ، وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران ، والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا ؛ فإنه لولا عنادهم الظاهر ، وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى .

وقال آخرون : إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله : ( إن هي إلا فتنتك ) [ الأعراف : 155] وذلك لأن المجيب قال : إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات ، واستغراقه فيها صار صادا له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك ، فإن هي إلا فتنتك .

المسألة الثانية : الذكر ذكر الله والإيمان به والقرآن والشرائع ، أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة .

المسألة الثالثة : قال أبو عبيدة : يقال : رجل بور ورجلان بور ورجال بور ، وكذلك الأنثى ، ومعناه هالك ، وقد يقال : رجل بائر وقوم بور ، وهو مثل هائر وهور ، والبوار الهلاك ، وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر ، ولا شك أن المراد منه : وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك ، فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه ، لو صار مؤمنا لصار الخبر الصدق كذبا ، ولصار العلم جهلا ، ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة ، ولصار اعتقاد الملائكة جهلا ، وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال ، فصدور الإيمان منه محال ، فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقيا ، والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيدا . ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال ، وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها ، ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغا يوجب البوار ؛ فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب ، فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر ، وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقيا ، وأن الشقي لا ينقلب سعيدا .

أما قوله تعالى : ( فقد كذبوكم بما تقولون ) فاعلم أنه قرئ : " يقولون " بالياء والتاء ، فمعنى من قرأ بالتاء : فقد كذبوكم بقولكم : إنهم آلهة ، أي : كذبوكم في قولكم : إنهم آلهة ، ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت فالمعنى أنهم كذبوكم بقولكم : " سبحانك " ، ومثاله قولك : كتبت بالقلم .

أما قوله : ( فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ) فاعلم أنه قرئ : " يستطيعون " بالياء والتاء أيضا ، يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم ، وقيل : الصرف التوبة ، وقيل : الحيلة ، من قولهم : إنه ليتصرف أي : يحتال ، أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية