صفحة جزء
( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين )

قوله عز وجل : ( فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين )

قال صاحب الكشاف : ( فأزلهما الشيطان عنها ) تحقيقه ، فأصدر الشيطان زلتهما عنها ، ولفظة ( عن ) في هذه الآية كهي في قوله تعالى : ( وما فعلته عن أمري ) [ الكهف : 82 ] قال القفال رحمه الله : هو من الزلل ، يكون الإنسان ثابت القدم على الشيء فيزل عنه ويصير متحولا عن ذلك الموضع ، ومن قرأ : ( فأزلهما ) فهو من الزوال عن المكان ، وحكي عن أبي معاذ أنه قال : يقال أزلتك عن كذا حتى زلت عنه ، وأزللتك حتى زللت ، ومعناهما واحد ، أي : حولتك عنه ، وقال بعض العلماء : أزلهما الشيطان أي استزلهما ، فهو من قولك : زل في دينه إذا أخطأ ، وأزله غيره إذا سبب له ما يزل من أجله في دينه أو دنياه . واعلم أن في الآية مسائل :

( المسألة الأولى ) : اختلف الناس في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، وضبط القول فيه أن يقال : الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة :

أحدها : ما يقع في باب الاعتقاد .

وثانيها : ما يقع في باب التبليغ .

وثالثها : ما يقع في باب الأحكام والفتيا .

ورابعها : ما يقع في أفعالهم وسيرتهم .

أما اعتقادهم الكفر والضلال فإن ذلك غير جائز عند أكثر الأمة . وقالت الفضيلية من الخوارج : إنهم قد وقعت منهم الذنوب ، والذنب عندهم كفر وشرك ، فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم ، وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية .

أما النوع الثاني : وهو ما يتعلق بالتبليغ ، فقد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف ، فيما يتعلق بالتبليغ ، وإلا لارتفع الوثوق بالأداء ، واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدا كما لا يجوز أيضا سهوا ، ومن الناس من جوز ذلك سهوا ، قالوا : لأن الاحتراز عنه غير ممكن .

وأما النوع الثالث : وهو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطؤهم فيه على سبيل التعمد ، وأما على سبيل السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون .

[ ص: 8 ]

وأما النوع الرابع : وهو الذي يقع في أفعالهم ، فقد اختلفت الأمة فيه على خمسة أقوال : أحدها : قول من جوز عليهم الكبائر على جهة العمد وهو قول الحشوية .

والثاني : قول من لا يجوز عليهم الكبائر لكنه يجوز عليهم الصغائر على جهة العمد إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف ، وهذا قول أكثر المعتزلة .

القول الثالث : أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة ولا بكبيرة على جهة العمد ألبتة ، بل على جهة التأويل وهو قول الجبائي .

القول الرابع : أنه لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ ولكنهم مؤاخذون بما يقع منهم على هذه الجهة ، وإن كان ذلك موضوعا عن أمتهم ؛ وذلك لأن معرفتهم أقوى ودلائلهم أكثر ، وأنهم يقدرون من التحفظ على ما لا يقدر عليه غيرهم .

القول الخامس : أنه لا يقع منهم الذنب لا الكبيرة ولا الصغيرة لا على سبيل القصد ولا على سبيل السهو ولا على سبيل التأويل والخطأ ، وهو مذهب الرافضة ، واختلف الناس في وقت العصمة على ثلاثة أقوال :

أحدها : قول من ذهب إلى أنهم معصومون من وقت مولدهم وهو قول الرافضة .

وثانيها : قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة ، وهو قول كثير من المعتزلة .

وثالثها : قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة ، أما قبل النبوة فجائز ، وهو قول أكثر أصحابنا وقول أبي الهذيل وأبي علي من المعتزلة . والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة ألبتة لا الكبيرة ولا الصغيرة ، ويدل عليه وجوه :

أحدها : لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة وذلك غير جائز ، بيان الملازمة أن درجة الأنبياء كانت في غاية الجلال والشرف ، وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ) ، [ الأحزاب : 30 ] والمحصن يرجم وغيره يحد ، وحد العبد نصف حد الحر ، وأما أنه لا يجوز أن يكون النبي أقل حالا من الأمة فذاك بالإجماع .

وثانيها : أن بتقدير إقدامه على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة ؛ لقوله تعالى : ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) [ الحجرات : 6 ] لكنه مقبول الشهادة ، وإلا كان أقل حالا من عدول الأمة ، وكيف لا نقول ذلك وأنه لا معنى للنبوة والرسالة إلا أنه يشهد على الله تعالى بأنه شرع هذا الحكم وذاك ، وأيضا فهو يوم القيامة شاهد على الكل ؛ لقوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [ البقرة : 143 ] .

وثالثها : أن بتقدير إقدامه على الكبيرة يجب زجره عنها ، فلم يكن إيذاؤه محرما لكنه محرم ؛ لقوله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ) [ الأحزاب : 57 ] .

ورابعها : أن محمدا صلى الله عليه وسلم لو أتى بالمعصية لوجب علينا الاقتداء به فيها ؛ لقوله تعالى : ( فاتبعوني ) فيفضي إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال ، وإذا ثبت ذلك في حق محمد صلى الله عليه وسلم ثبت أيضا في سائر الأنبياء ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق .

وخامسها : أنا نعلم ببديهة العقل أنه لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وائتمنه على وحيه وجعله خليفة في عباده وبلاده يسمع ربه يناديه : لا تفعل كذا فيقدم عليه ترجيحا للذته غير ملتفت إلى نهي ربه ولا منزجر بوعيده . هذا معلوم القبح بالضرورة .

وسادسها : أنه لو صدرت المعصية من الأنبياء لكانوا مستحقين للعذاب ؛ لقوله تعالى : ( ومن يعص الله [ ص: 9 ] ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها ) [ الجن : 23 ] ولا استحقوا اللعن لقوله : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] وأجمعت الأمة على أن أحدا من الأنبياء لم يكن مستحقا للعن ولا للعذاب فثبت أنه ما صدرت المعصية عنه .

وسابعها : أنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله فلو لم يطيعوه لدخلوا تحت قوله : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) [ البقرة : 44 ] وقال : ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) [ هود : 88 ] ، فما لا يليق بواحد من وعاظ الأمة كيف يجوز أن ينسب إلى الأنبياء عليهم السلام .

وثامنها : قوله تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ) [ الأنبياء : 90 ] ، ولفظ الخيرات للعموم فيتناول الكل ، ويدخل فيه فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي ، فثبت أن الأنبياء كانوا فاعلين لكل ما ينبغي فعله وتاركين كل ما ينبغي تركه ، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم .

وتاسعها : قوله تعالى : ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) [ ص : 47 ] ، وهذا يتناول جميع الأفعال والتروك بدليل جواز الاستثناء فيقال : فلان من المصطفين الأخيار إلا في الفعلة الفلانية ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته ، فثبت أنهم كانوا أخيارا في كل الأمور ، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم . وقال : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) [ الحج : 75 ] ، ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ آل عمران : 33 ] . وقال في إبراهيم : ( ولقد اصطفيناه في الدنيا ) [ البقرة : 130 ] . وقال في موسى : ( إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ) [ الأعراف : 144 ] . وقال : ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) [ ص : 47 ] . فكل هذه الآيات دالة على كونهم موصوفين بالاصطفاء والخيرية ، وذلك ينافي صدور الذنب عنهم .

عاشرها : أنه تعالى حكى عن إبليس قوله : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) [ ص : 83 ] ، فاستثنى من جملة من يغويهم المخلصين وهم الأنبياء عليهم السلام . قال تعالى في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب : ( إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار ) [ ص : 46 ] وقال في يوسف : ( إنه من عبادنا المخلصين ) [ يوسف : 24 ] ، وإذا ثبت وجوب العصمة في حق البعض ثبت وجوبها في حق الكل ؛ لأنه لا قائل بالفرق .

والحادي عشر : قوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ) [ سبأ : 20 ] ، فأولئك الذين ما اتبعوه وجب أن يقال : إنه ما صدر الذنب عنهم وإلا فقد كانوا متبعين له ، وإذا ثبت في ذلك الفريق أنهم ما أذنبوا فذلك الفريق إما الأنبياء أو غيرهم ، فإن كانوا هم الأنبياء فقد ثبت في النبي أنه لا يذنب وإن كانوا غير الأنبياء فلو ثبت في الأنبياء أنهم أذنبوا لكانوا أقل درجة عند الله من ذلك الفريق ، فيكون غير النبي أفضل من النبي ، وذلك باطل بالاتفاق فثبت أن الذنب ما صدر عنهم .

الثاني عشر : أنه تعالى قسم الخلق قسمين فقال : ( أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) [ المجادلة : 19 ] وقال في الصنف الآخر : ( أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ) [ المجادلة : 22 ] ولا شك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل ما يرتضيه الشيطان ، والذي يرتضيه الشيطان هو المعصية ، فكل من عصى الله تعالى كان من حزب الشيطان ، فلو صدرت المعصية من الرسول لصدق عليه أنه [ ص: 10 ] من حزب الشيطان ولصدق عليه أنه من الخاسرين ولصدق على زهاد الأمة أنهم من حزب الله ، وأنهم من المفلحين ، فحينئذ يكون ذلك الواحد من الأمة أفضل بكثير عند الله من ذلك الرسول ، وهذا لا يقوله مسلم .

الثالث عشر : أن الرسول أفضل من الملك فوجب أن لا يصدر الذنب من الرسول ، وإنما قلنا : إنه أفضل ؛ لقوله تعالى : ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) [ آل عمران : 33 ] ، ووجه الاستدلال به قد تقدم في مسألة فضل الملك على البشر ، وإنما قلنا : إنه لما كان كذلك وجب أن لا يصدر الذنب عن الرسول ؛ لأنه تعالى وصف الملائكة بترك الذنب فقال : ( لا يسبقونه بالقول ) [ الأنبياء : 27 ] وقال : ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) [ التحريم : 6 ] ، فلو صدرت المعصية عن الرسول لامتنع كونه أفضل من الملك ؛ لقوله تعالى : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) [ ص : 28 ] .

الرابع عشر : روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف شهدت لي " فقال : يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات أفلا أصدقك في هذا القدر ؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة .

الخامس عشر : قال في حق إبراهيم عليه السلام : ( إني جاعلك للناس إماما ) [البقرة : 124] والإمام من يؤتم به فأوجب على كل الناس أن يأتموا به فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب ، وذلك يفضي إلى التناقض .

السادس عشر : قوله تعالى : ( لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] والمراد بهذا العهد إما عهد النبوة أو عهد الإمامة ، فإن كان المراد عهد النبوة وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين ، وإن كان المراد عهد الإمامة وجب أن لا تثبت الإمامة للظالمين ، وإذا لم تثبت الإمامة للظالمين وجب أن لا تثبت النبوة للظالمين ، لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماما يؤتم به ويقتدى به .

التالي السابق


الخدمات العلمية