صفحة جزء
النوع الثاني : ما يتعلق بالأرض

( أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون )

قال صاحب "الكشاف" ( أمن جعل ) وما بعده بدل من ( أمن خلق ) فكان ( حكمها ) حكمه .

واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أمورا أربعة :

المنفعة الأولى : كونها قرارا وذلك لوجوه :

الأول : أنه دحاها وسواها للاستقرار .

الثاني : أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة ، فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه ، وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه .

الثالث : أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور ، ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها ، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات .

الرابع : أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس ، ولولا ذلك لما اختلفت الفصول ، ولما حصلت المنافع .

الخامس : أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة ، فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة ، وعلى التقديرين : لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض .

السادس : أنه سبحانه جعلها كفاتا للأحياء والأموات ، وأنه يطرح عليها كل قبيح ، ويخرج منها كل مليح .

المنفعة الثانية للأرض : قوله : ( وجعل خلالها أنهارا ) فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة :

الأول : ماء العيون السيالة ، وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة ، ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءا .

الثاني : ماء العيون الراكدة ، وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت [ ص: 178 ] إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها .

الثالث : مياه القني والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض ، فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذا تندفع إليه بأدنى حركة .

الرابع : مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ، ونسبة القني إلى الآبار نسبة العيون الراكدة ، فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها ؛ إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها .

المنفعة الثالثة للأرض : قوله : ( وجعل لها رواسي ) والمراد منها الجبال ، فنقول : أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها ، أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به ، فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض ، فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ، ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ، ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل ، ونفس الأرض التي تحته كالقرعة ، والعيون كالأذناب ، والبخار كالقوابل ؛ ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري ، وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة . وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة :

أحدها : أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة .

وثانيها : إن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد ، فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين .

وثالثها : أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل ، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر ؛ لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر ، والاحتقان أشد ، والسبب المحلل وهو الحر أقل ، فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر . وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال .

المنفعة الرابعة للأرض : قوله : ( وجعل بين البحرين حاجزا ) فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط ، وأيضا فلينتفع بذلك الحاجز ، وأيضا المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة ، وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزا لكي لا يفسد أحدهما بالآخر ، وقال بعض الحكماء في قوله : ( مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان ) ( الرحمن : 20 ) قال عند عدم البغي ( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) ( الرحمن : 22 ) فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر ، فإن قيل : ولم جعل البحر ملحا ؟ قلنا : لولا ملوحته لأجن ، وانتشر فساد أجونته في الأرض ، وأحدث الوباء العام . واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب ، بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن ؛ لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار ، والأنهار تستمد في الأكثر من العيون ، وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل ، ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابها مستمرا فإن كثيرا من العيون يغور ، وكثيرا ما تقحط السماء فلا بد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار ، وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت [ ص: 179 ] الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب ، ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية ، ونبه بقوله تعالى : ( بل أكثرهم لا يعقلون ) ( العنكبوت : 63 ) على عظيم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية