( 
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون   ) 
ثم قال تعالى : ( 
والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون   ) 
لما بين إجمالا أن من يعمل صالحا فلنفسه بين مفصلا بعض التفصيل أن 
جزاء المطيع الصالح عمله فقال : ( 
والذين آمنوا   ) وفي الآية مسائل : 
المسألة الأولى : أنها تدل على أن 
الأعمال مغايرة للإيمان ؛ لأن العطف يوجب التغاير . 
المسألة الثانية : أنها تدل على أن 
الأعمال داخلة فيما هو المقصود من الإيمان ؛ لأن تكفير السيئات ، والجزاء بالأحسن معلق عليها ، وهي ثمرة الإيمان ، ومثال هذا شجرة مثمرة ؛ لا شك في أن عروقها وأغصانها منها ، والماء الذي يجري عليها والتراب الذي حواليها غير داخل فيها ؛ لكن الثمرة لا تحصل إلا بذلك الماء والتراب الخارج ، فكذلك العمل الصالح مع الإيمان ، وأيضا الشجرة لو احتفت بها الحشائش المفسدة والأشواك المضرة ينقص ثمرة الشجرة وإن غلبتها عدمت الثمرة بالكلية وفسدت فكذلك الذنوب تفعل بالإيمان . 
المسألة الثالثة : 
الإيمان هو التصديق كما قال : ( 
وما أنت بمؤمن لنا   ) (يوسف : 17) أي بمصدق ، واختص في استعمال الشرع بالتصديق بجميع ما قال الله ، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على سبيل التفصيل ، إن علم مفصلا أنه قول الله أو قول الرسول أو على سبيل الإجمال فيما لم يعلم ، والعمل الصالح عندنا كل ما أمر الله به صار صالحا بأمره ، ولو نهى عنه لما كان صالحا فليس الصلاح والفساد من لوازم الفعل في نفسه ، وقالت 
المعتزلة  ذلك من صفات الفعل ويترتب عليه الأمر والنهي ، فالصدق عمل صالح في نفسه ويأمر الله به لذلك ، فعندنا الصلاح والفساد والحسن والقبح يترتب على الأمر والنهي ، وعندهم الأمر والنهي يترتب على الحسن والقبح ، والمسألة بطولها في (كتب الأصول .  
[ ص: 31 ] المسألة الرابعة : 
العمل الصالح باق لأن الصالح في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف ، يقال فسدت الزروع إذا هلكت أو خرجت عن درجة الانتفاع ، ويقال هي بعد صالحة أي باقية على ما ينبغي . إذا علم هذا فنقول العمل الصالح لا يبقى بنفسه ؛ لأنه عرض ، ولا يبقى بالعامل أيضا ؛ لأنه هالك كما قال تعالى : ( 
كل شيء هالك   ) ( القصص : 88 ) فبقاؤه لا بد من أن يكون بشيء باق ، لكن الباقي هو وجه الله لقوله : ( 
كل شيء هالك إلا وجهه   ) (القصص : 88 ) فينبغي أن يكون العمل لوجه الله حتى يبقى فيكون صالحا ، وما لا يكون لوجهه لا يبقى لا بنفسه ولا بالعامل ولا بالمعمول له فلا يكون صالحا ، 
فالعمل الصالح هو الذي أتى به المكلف مخلصا لله   . 
المسألة الخامسة : هذا يقتضي أن تكون 
النية شرطا في الصالحات من الأعمال ، وهي قصد الإيقاع لله ، ويندرج فيها النية في الصوم خلافا 
 nindex.php?page=showalam&ids=15922لزفر  ، وفي الوضوء خلافا 
 nindex.php?page=showalam&ids=11990لأبي حنيفة  رحمه الله . 
المسألة السادسة : 
العمل الصالح مرفوع لقوله تعالى : ( 
والعمل الصالح يرفعه   ) (فاطر : 10 ) لكنه لا يرتفع إلا بالكلم الطيب فإنه يصعد بنفسه كما قال تعالى : ( 
إليه يصعد الكلم الطيب   ) (فاطر : 10 ) وهو يرفع العمل ، 
فالعمل من غير المؤمن لا يقبل ، ولهذا قدم الإيمان على العمل ، وههنا لطيفة ، وهي أن 
أعمال المكلف ثلاثة   : عمل قلبه وهو فكره واعتقاده وتصديقه ، وعمل لسانه وهو ذكره وشهادته ، وعمل جوارحه وهو طاعته وعبادته . 
فالعبادة البدنية لا ترتفع بنفسها وإنما ترتفع بغيرها ، والقول الصادق يرتفع بنفسه كما بين في الآية ، وعمل القلب وهو الفكر ينزل إليه كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013554إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ويقول هل من تائب   " والتائب النادم بقلبه ، وكذلك قوله عليه السلام : " 
يقول الله عز وجل أنا عند المنكسرة قلوبهم   " يعني بالفكرة في عجزه وقدرتي ، وحقارته وعظمتي ، ومن حيث العقل من تفكر في آلاء الله وجد الله ، وحضر ذهنه فعلم أن لعمل القلب يأتي الله ، وعمل اللسان يذهب إلى الله وعمل الأعضاء يوصل إلى الله ، وهذا تنبيه على 
فضل عمل القلب   . 
المسألة السابعة : ذكر الله من أعمال العبد نوعين : الإيمان والعمل الصالح ، وذكر في مقابلتهما من أفعال الله أمرين تكفير السيئات والجزاء بالأحسن حيث قال : ( 
لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن   ) 
فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، 
والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، وهذا يقتضي أمورا : 
الأول : 
المؤمن لا يخلد في النار ؛ لأن بإيمانه تكفر سيئاته فلا يخلد في العذاب . 
الثاني : الجزاء الأحسن المذكور ههنا غير الجنة ؛ وذلك لأن المؤمن بإيمانه يدخل الجنة؛ إذ تكفر سيئاته ، ومن كفرت سيئاته أدخل الجنة ، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة ، وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية . 
الأمر الثالث : هو أن 
الإيمان يستر قبح الذنوب في الدنيا ، فيستر الله عيوبه في الأخرى ، 
والعمل الصالح يحسن حال الصالح في الدنيا فيجزيه الله الجزاء الأحسن في العقبى ، فالإيمان إذن لا يبطله العصيان بل هو يغلب المعاصي ويسترها ويحمل صاحبها على الندم ، والله أعلم . 
المسألة الثامنة 
  : قوله : ( لنكفرن عنهم سيئاتهم   ) يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ( 
والذين آمنوا وعملوا الصالحات   ) بأسرها من أين يكون لهم سيئة ؟ فنقول : الجواب عنه من وجهين : 
أحدهما : أن وعد   
[ ص: 32 ] الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء ، مثاله : إذا قال الملك لأهل بلد : إذا أطعتموني أكرم آباءكم ، وأحترم أبناءكم ، وأنعم عليكم ، وأحسن إليكم ، لا يقتضي هذا أنه يكرم آباء من توفي أبوه ، أو يحترم ابن من لم يولد له ولد ، بل مفهومه أنه يكرم أب من له أب ، ويحترم ابن من له ابن ، فكذلك يكفر سيئة من له سيئة . 
الجواب الثاني : ما من مكلف إلا وله سيئة ، أما غير الأنبياء فظاهر ، وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم ، ولهذا قال تعالى : ( 
عفا الله عنك لم أذنت لهم   ) (التوبة : 43 ) . 
المسألة التاسعة : قوله : ( 
ولنجزينهم أحسن   ) يحتمل وجهين : 
أحدهما : لنجزينهم بأحسن أعمالهم . 
وثانيهما : لنجزينهم أحسن من أعمالهم . 
وعلى الوجه الأول معناه نقدر أعمالهم أحسن ما تكون ونجزيهم عليها لا أنه يختار منها أحسنها ويجزي عليه ويترك الباقي ، وعلى الوجه الثاني : معناه قريب من معنى قوله تعالى : ( 
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها   ) (الأنعام : 160 ) وقوله : ( 
فله خير منها   ) . 
المسألة العاشرة : ذكر 
حال المسيء مجملا بقوله : ( 
أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا   ) إشارة إلى التعذيب مجملا . 
وذكر 
حال المحسن مجملا بقوله : ( 
ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه   ) ومفصلا بهذه الآية ، ليكون ذلك إشارة إلى أن رحمته أتم من غضبه وفضله أعم من عدله .