صفحة جزء
( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم )

ثم قال تعالى : ( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون )

ذكر أمرين الصبر والتوكل ; لأن الزمان ماض وحاضر ومستقبل لكن الماضي لا تدارك له ، ولا يؤمر العبد فيه بشيء ، بقي الحاضر واللائق به الصبر والمستقبل واللائق به التوكل ، فيصبر على ما يصيبه من الأذى في الحال ، ويتوكل فيما يحتاج إليه في الاستقبال .

واعلم أن الصبر والتوكل صفتان لا يحصلان إلا مع العلم بالله والعلم بما سوى الله ، فمن علم ما سواه علم أنه زائل فيهون عليه الصبر إذ الصبر على الزائل هين ، وإذا علم الله علم أنه باق يأتيه بأرزاقه فإن فاته شيء فإنه يتوكل على حي باق ، وذكر الصبر والتوكل ههنا مناسب ، فإن قوله : ( ياعبادي ) كان لبيان أنه لا مانع من العبادة ، ومن يؤذى في بقعة فليخرج منها . فحصل الناس على قسمين : قادر على الخروج وهو متوكل على ربه ، يترك الأوطان ويفارق الإخوان ، وعاجز وهو صابر على تحمل الأذى ومواظب على عبادة الله تعالى .

ثم قال تعالى : ( وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ) .

لما ذكر الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ذكر ما يعين على التوكل وهو بيان حال الدواب التي لا تدخر شيئا لغد ، ويأتيها كل يوم برزق رغد . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : في كأين لغات أربع [ لا ] غير ، هذه [ و ] كائن على وزن راع وكأين على وزن ريع وكي على دع ، ولم يقرأ إلا كأين ، وكائن قراءة ابن كثير .

المسألة الثانية : كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه وأي التي تستعمل استعمال من وما ركبتا ، وجعل المركب بمعنى كم ، ولم تكتب إلا بالنون ليفصل بين المركب وغير المركب ; لأن كأي يستعمل غير مركب كما يقول القائل رأيت رجلا لا كأي رجل يكون ، فقد حذف المضاف إليه ، ويقال رأيت رجلا لا كأي رجل ، وحينئذ لا يكون كأي مركبا ، فإذا كان كأي ههنا مركبا كتبت بالنون للتمييز كما تكتب معديكرب وبعلبك [ ص: 77 ] موصولا للفرق . وكما تكتب ثمة بالهاء تمييزا بينها وبين ثمت .

المسألة الثالثة : كأين بمعنى كم لم تستعمل مع من إلا نادرا وكم يستعمل كثيرا من غير من ، يقال كم رجلا وكم من رجل ، وذلك لما بينا من الفرق بين كأين بمعنى كم وكأي التي ليست مركبة ، وذلك لأن كأي إذا لم تكن مركبة لا يجوز إدخال من بعدها إذ لا يقال رأيت رجلا لا كأي من رجل ، والمركبة بمعنى كم يجوز ذلك فيها ، فالتزم للفرق . قوله تعالى : ( لا تحمل رزقها ) قيل : لا تحمل لضعفها ، وقيل هي كالقمل والبرغوث والدود وغيرها وقيل لا تدخر ( الله يرزقها وإياكم ) بطريق القياس ، أي لا شك في أن رزقها ليس إلا بالله فكذلك يرزقكم فتوكلوا ، فإن قال قائل من قال بأن الله يرزق الدواب بل النبات في الصحراء مسبب والحيوان يسعى إليه ويرعى ، فنقول : الدليل عليه من ثلاثة أوجه نظرا إلى الرزق وإلى المرتزق وإلى مجموع الرزق والمرتزق .

أما بالنظر إلى الرزق فلأن الله تعالى لو لم يخلق النبات لم يكن للحيوان رزق .

وأما بالنظر إلى المرتزق فلأن الاغتذاء ليس بمجرد الابتلاع ، بل لا بد من تشبثه بالأعضاء حتى يصير الحشيش عظما ولحما وشحما ، وما ذاك إلا بحكمة الله تعالى حيث خلق فيه جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها من القوى وبمحض قدرة الله وإرادته فهو الذي يرزقها .

وأما بالنظر إلى المرتزق والرزق ، فلأن الله لو لم يهد الحيوان إلى الغذاء ليعرفه من الشم ما كان يحصل له اغتذاء ، ألا ترى أن من الحيوان ما لا يعرف نوعا من أنواع الغذاء حتى يوضع في فمه بالشدة ليذوق فيأكله بعد ذلك ، فإن كثيرا ما يكون البعير لا يعرف الخمير ولا الشعير حتى يلقم مرتين أو ثلاثة فيعرفه فيأكله بعد ذلك ، فإن قال قائل كيف يصح قياس الإنسان على الحيوان فيما يوجب التوكل ، والحيوان رزقه لا يتعرض إليه إذا أكل منه اليوم شيئا وترك بقية يجدها غدا ، ما مد إليه أحد يدا ، والإنسان إن لم يأخذ اليوم لا يبقى له غدا شيء ؟ وأيضا حاجات الإنسان كثيرة فإنه يحتاج إلى أجناس اللباس وأنواع الأطعمة ولا كذلك الحيوان وأيضا قوت الحيوان مهيأ ، وقوت الإنسان يحتاج إلى كلف كالزرع والحصاد والطحن والخبز ، فلو لم يجمعه قبل الحاجة ما كان يجده وقت الحاجة ، فنقول نحن لا نقول إن الجمع يقدح في التوكل ، بل قد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل ; لأن من يزرع يكون اعتماده على الله واعتقاده في الله أنه إن كان يريد يرزق من غير زرع ، وإن كان يريد لا يرزق من ذلك الزرع ، فيعمل وقلبه مع الله هو متوكل حق التوكل ، ومن يصلي وقلبه مع ما في يد زيد وعمرو هو غير متوكل .

وأما قوله : حاجات الإنسان كثيرة ، فنقول مكاسبه كثيرة أيضا ، فإنه يكتسب بيده كالخياط والنساج وبرجله كالساعي وغيره ، وبعينه كالناطور ، وبلسانه كالحادي والمنادي ، وبفهمه كالمهندس والتاجر ، وبعلمه كالطبيب والفقيه ، وبقوة جسمه كالعتال والحمال ، والحيوان لا مكاسب له ، فالرغيف الذي يحتاج إليه الإنسان غدا أو بعد غد ، بعيد أن لا يرزقه الله مع هذه المكاسب ، فهو أولى بالتوكل .

وأيضا الله تعالى خلق الإنسان بحيث يأتيه الرزق وأسبابه ، فإن الله ملك الإنسان عمائر الدنيا وجعلها بحيث تدخل في ملكه شاء أم أبى ، حتى أن نتاج الأنعام وثمار الأشجار تدخل في الملك وإن لم يرده مالك النعم والشجر ، وإذا مات قرن ينتقل ذلك إلى قرن آخر قهرا شاءوا أم أبوا ، وليس كذلك حال الحيوان أصلا ، فإن الحيوان إن لم يأت الرزق لا يأتيه رزقه ، فإذن الإنسان لو توكل كان أقرب إلى العقل من توكل الحيوان ، ثم قال : ( وهو السميع العليم ) سميع إذا طلبتم الرزق ، يسمع ويجيب ، عليم إن سكتم ، لا تخفى عليه حاجتكم ومقدار حاجتكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية