صفحة جزء
[ ص: 84 ] سورة الروم

ستون آية مكية [ إلا آية 17 فمدنية ، نزلت بعد الانشقاق ]

بسم الله الرحمن الرحيم

( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون )

بسم الله الرحمن الرحيم

( الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين )

وجه تعلق أول هذه السورة بما قبلها يتبين منه سبب النزول ، فنقول : لما قال الله تعالى في السورة المتقدمة ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [ العنكبوت : 46 ] وكان يجادل المشركين بنسبتهم إلى عدم العقل كما في قوله : ( صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) [ البقرة : 171 ] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله كما قال : ( وإلهنا وإلهكم واحد ) [ العنكبوت : 46 ] وكانوا يؤمنون بكثير مما يقوله ، بل كثير منهم كانوا مؤمنين به كما قال : ( فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ) [ العنكبوت : 47 ] أي أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم ، وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور ، فلما وقعت الكرة عليهم حين قاتلهم الفرس المجوس فرح المشركون بذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق ، بل الله تعالى قد يريد مزيد ثواب في المحب فيبتليه ويسلط عليه الأعادي ، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم الميعاد للمعادي ، وفي الآية مسائل :

الأولى : ما الحكمة في افتتاح هذه السورة بحروف التهجي ؟ فنقول : قد سبق منا أن كل سورة افتتحت بحروف التهجي ، فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كما في قوله تعالى : ( الم ذلك الكتاب ) [ البقرة : 1 - 2 ] ، ( المص كتاب ) [ الأعراف : 1 - 2] ، ( طه ما أنزلنا عليك القرآن ) [ طه : 1 - 2 ] ، ( الم تنزيل الكتاب ) [ السجدة : 1 - 2] ( حم تنزيل من الرحمن الرحيم ) [ فصلت : 1 - 2] ، ( يس والقرآن ) [ يس : 1 - 2 ] ، ( ص والقرآن ) [ ص : 1 ] إلا هذه السورة وسورتين أخريين ذكرناهما في العنكبوت وقد ذكرنا ما الحكمة فيهما في موضعهما [ ص: 85 ] فنقول : ما يتعلق بهذه السور وهو أن السورة التي في أوائلها التنزيل والكتاب والقرآن في أوائلها ذكر ما هو معجزة فقدمت عليها الحروف على ما تقدم بيانه في العنكبوت ، وهذه ذكر في أولها ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب ، فقدمت الحروف التي لا يعلم معناها ليتنبه السامع ; فيقبل بقلبه على الاستماع ، ثم ترد عليه المعجزة وتقرع الأسماع .

المسألة الثانية : قوله تعالى : ( في أدنى الأرض ) أي أرض العرب ; لأن الألف واللام للتعريف ، والمعهود عندهم أرضهم ، وقوله تعالى : ( وهم من بعد غلبهم ) أية فائدة في ذكره مع أن قوله : ( سيغلبون ) بعد قوله : ( غلبت الروم ) لا يكون إلا من بعد الغلبة ؟ فنقول : الفائدة فيه إظهار القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله ; لأن من غلب بعد غلبه لا يكون إلا ضعيفا ، فلو كان غلبتهم لشوكتهم لكان الواجب أن يغلبوا قبل غلبهم فإذا غلبوا بعدما غلبوا ، دل على أن ذلك بأمر الله ، فذكر من بعد غلبهم ليتفكروا في ضعفهم ويتذكروا أنه ليس بزحفهم ، وإنما ذلك بأمر الله تعالى ، وقوله : ( في أدنى الأرض ) لبيان شدة ضعفهم ، أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز ، وكسروهم وهم في بلادهم ثم غلبوا حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هناك الرومية لبيان أن هذه الغلبة العظيمة بعد ذلك الضعف العظيم بإذن الله .

المسألة الثالثة : قال تعالى : ( في بضع سنين ) قيل هي ما بين الثلاثة والعشرة ، أبهم الوقت مع أن المعجزة في تعيين الوقت أتم ، فنقول السنة والشهر واليوم والساعة كلها معلومة عند الله تعالى ، وبينها لنبيه وما أذن له في إظهارها ; لأن الكفار كانوا معاندين ، والأمور التي تقع في البلاد النائية تكون معلومة الوقوع بحيث لا يمكن إنكارها لكن وقتها يمكن الاختلاف فيه ، فالمعاند كان يتمكن من أن يرجف بوقوع الواقعة قبل الوقوع ليحصل الخلف في كلامه ، ولما وردت الآية ذكر أبو بكر - رضي الله عنه - أن الروم ستغلب وأنكره أبي بن خلف وغيره ، وناحبوا أبا بكر أي خاطروه على عشرة قلائص إلى ثلاث سنين فقال - عليه السلام - لأبي بكر البضع ما بين الثلاثة والعشرة فزايده في الإبل وماده في الأجل ، فجعلا القلائص مائة والأجل سبعا ، وهذا يدل على علم النبي - عليه السلام - بوقت الغلبة .

[ قوله تعالى : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ) ] .

ثم قال تعالى : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) أي من قبل الغلبة ومن بعدها ، أو من قبل هذه المدة ومن بعدها ، يعني إن أراد غلبهم غلبهم قبل بضع سنين ، وإن أراد غلبهم غلبهم بعدها ، وما قدر هذه المدة لعجز وإنما هي إرادة نافذة ، وبنيا على الضم لما قطعا عن الإضافة ; لأن غير الضمة من الفتحة والكسرة يشتبه بما يدخل عليهما وهو النصب والجر ، أما النصب ففي قولك جئت قبله أو بعده ، وأما الجر ففي قولك من قبله ومن بعده فبنيا على الضم لعدم دخول مثلهما عليه في الإعراب وهو الرفع ( ويومئذ يفرح المؤمنون ) قيل يفرحون بغلبة الروم على الفرس كما فرح المشركون بغلبة الفرس على الروم ، والأصح أنهم يفرحون بغلبتهم المشركين وذلك لأن غلبة الروم كانت يوم غلبة المسلمين المشركين ببدر ، ولو كان المراد ما ذكروه لما صح ; لأن في ذلك اليوم بعينه لم يصل إليهم خبر الكسر ، فلا يكون فرحهم يومئذ ، بل الفرح يحصل بعده .

التالي السابق


الخدمات العلمية