صفحة جزء
( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )

قوله تعالى : ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون )

اعلم أن هذا هو الإنعام الثامن ، وهذه الآية معطوفة على النعم المتقدمة لأنه تعالى كما بين نعمه عليهم بأن ظلل لهم من الغمام وأنزل [عليهم] من المن والسلوى وهو من النعم العاجلة أتبعه بنعمه عليهم في باب الدين حيث أمرهم بما يمحو ذنوبهم وبين لهم طريق المخلص مما استوجبوه من العقوبة .

واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين :

النوع الأول : ما يتعلق بالتفسير فنقول : أما قوله تعالى : ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) فاعلم أنه أمر تكليف ، ويدل عليه وجهان :

الأول : أنه تعالى أمر بدخول الباب سجدا ، وذلك فعل شاق فكان الأمر به تكليفا ، ودخول الباب سجدا مشروط بدخول القرية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فثبت أن الأمر بدخول القرية أمر تكليف لا أمر إباحة .

الثاني : أن قوله : ( ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم ) [المائدة : 21] دليل على ما ذكرناه . أما القرية فظاهر القرآن لا يدل على عينها ، وإنما يرجع في ذلك إلى الأخبار ، وفيه أقوال :

أحدها : وهو اختيار قتادة والربيع وأبي مسلم الأصفهاني أنها بيت المقدس ، واستدلوا عليه بقوله تعالى في سورة المائدة : ( ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) [المائدة : 21] ولا شك أن المراد بالقرية في الآيتين واحد .

وثانيها : أنها نفس مصر .

وثالثها : وهو قول ابن عباس وأبي زيد إنها أريحاء وهي قريبة من بيت المقدس ، واحتج هؤلاء على أنه لا يجوز أن تكون تلك القرية بيت [ ص: 83 ] المقدس لأن الفاء في قوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا ) تقتضي التعقيب فوجب أن يكون ذلك التبديل وقع منهم عقيب هذا الأمر في حياة موسى ، لكن موسى مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس ، فثبت أنه ليس المراد من هذه القرية بيت المقدس .

وأجاب الأولون بأنه ليس في هذه الآية أنا قلنا ادخلوا هذه القرية على لسان موسى أو على لسان يوشع ، وإذا حملناه على لسان يوشع زال الإشكال .

وأما قوله تعالى : ( فكلوا منها حيث شئتم رغدا ) فقد مر تفسيره في قصة آدم عليه السلام وهو أمر إباحة .

أما قوله تعالى : ( وادخلوا الباب سجدا ) ففيه بحثان :

الأول : اختلفوا في الباب على وجهين :

أحدهما : وهو قول ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة أنه باب يدعى باب الحطة من بيت المقدس .

وثانيهما : حكى الأصم عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القرية ومدخلا إليها .

الثاني : اختلفوا في المراد بالسجود فقال الحسن : أراد به نفس السجود الذي هو إلصاق الوجه بالأرض وهذا بعيد لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك ، ومنهم من حمله على غير السجود ، وهؤلاء ذكروا وجهين :

الأول : رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن المراد هو الركوع ؛ لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء ، وهذا بعيد لأنه لو كان ضيقا لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعا فما كان يحتاج فيه إلى الأمر .

الثاني : أراد به الخضوع وهو الأقرب ؛ لأنه لما تعذر حمله على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع ؛ لأنهم إذا أخذوا في التوبة فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاضعا مستكينا . أما قوله تعالى : ( وقولوا حطة ) ففيه وجوه :

أحدها : وهو قول القاضي : المعنى أنه تعالى بعد أن أمرهم بدخول الباب على وجه الخضوع أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة ، وذلك لأن التوبة صفة القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، فإذا اشتهر واحد بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ؛ لأن التوبة لا تتم إلا به ، إذ الأخرس تصح توبته وإن لم يوجد منه الكلام بل لأجل تعريف الغير عدوله عن الذنب إلى التوبة ، ولإزالة التهمة عن نفسه ، وكذلك من عرف بمذهب خطأ ، ثم تبين له الحق فإنه يلزمه أن يعرف إخوانه الذين عرفوه بالخطأ عدوله عنه ، لتزول عنه التهمة في الثبات على الباطل وليعودوا إلى موالاته بعد معاداته ، فلهذا السبب ألزم الله تعالى بني إسرائيل مع الخضوع الذي هو صفة القلب أن يذكروا اللفظ الدال على تلك التوبة وهو قوله : ( وقولوا حطة ) فالحاصل أنه أمر القوم بأن يدخلوا الباب على وجه الخضوع وأن يذكروا بلسانهم التماس حط الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب وخضوع الجوارح والاستغفار باللسان ، وهذا الوجه أحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق .

ثانيها : قول الأصم : إن هذه اللفظة من ألفاظ أهل الكتاب أي لا يعرف معناها في العربية .

وثالثها : قال صاحب الكشاف " حطة " فعلة من الحط كالجلسة والركبة وهي خبر مبتدأ محذوف أي مسألتنا حطة أو أمرك حطة والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله :

صبر جميل فكلانا مبتلى

والأصل صبرا على تقدير اصبر صبرا ، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب .

ورابعها : قول أبي مسلم الأصفهاني معناه أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها ، وزيف القاضي ذلك بأن قال : لو كان [ ص: 84 ] المراد ذلك لم يكن غفران خطاياهم متعلقا به ولكن قوله : ( وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم ) يدل على أن غفران الخطايا كان لأجل قولهم حطة ، ويمكن الجواب عنه بأنهم لما حطوا في تلك القرية حتى يدخلوا سجدا مع التواضع كان الغفران متعلقا به .

وخامسها : قول القفال : معناه اللهم حط عنا ذنوبنا فإنا إنما انحططنا لوجهك وإرادة التذلل لك ، فحط عنا ذنوبنا . فإن قال قائل : هل كان التكليف واردا بذكر هذه اللفظة بعينها أم لا ؟ قلنا روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها وهذا محتمل ولكن الأقرب خلافه لوجهين :

أحدهما : أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بالعربية .

وثانيهما : وهو الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم والخضوع حتى أنهم لو قالوا مكان قولهم : ( حطة ) اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ؛ لأن المقصود من التوبة ، إما القلب وإما اللسان ، أما القلب فالندم ، وأما اللسان فذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها .

أما قوله تعالى : ( نغفر لكم ) فالكلام في المغفرة قد تقدم . ثم هاهنا بحثان :

الأول : أن قوله : ( نغفر لكم ) ذكره الله تعالى في معرض الامتنان ، ولو كان قبول التوبة واجبا عقلا على ما تقوله المعتزلة لما كان الأمر كذلك ، بل كان أداء للواجب وأداء الواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان .

الثاني : هاهنا قراءات :

أحدها : قرأ أبو عمرو وابن المنادي بالنون وكسر الفاء .

وثانيها : قرأ نافع بالياء وفتحها .

وثالثها : قرأ الباقون من أهل المدينة وجبلة عن المفضل بالتاء وضمها وفتح الفاء .

ورابعها : قرأ الحسن وقتادة وأبو حيوة والجحدري بالياء وضمها وفتح الفاء .

قال القفال : والمعنى في هذه القراءات كلها واحد ؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت وإذا غفرت فإنما يغفرها الله ، والفعل إذا تقدم الاسم المؤنث وحال بينه وبين الفاعل حائل جاز التذكير والتأنيث كقوله : ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) [هود : 67] والمراد من الخطيئة الجنس لا الخطيئة الواحدة بالعدد .

أما قوله تعالى : ( خطاياكم ) ففيه قراءات :

أحدها : قرأ الجحدري "خطيئتكم" بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة على واحدة .

وثانيها : الأعمش "خطيئاتكم" بمدة وهمزة وألف بعد الهمزة قبل التاء وكسر التاء .

وثالثها : الحسن كذلك إلا أنه يرفع التاء .

ورابعها : الكسائي خطاياكم بهمزة ساكنة بعد الطاء قبل الياء .

وخامسها : ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الياء وقبل الكاف .

وسادسها : الكسائي بكسر الطاء والياء ، والباقون بإمالة الياء فقط .

أما قوله تعالى : ( وسنزيد المحسنين ) فإما أن يكون المراد من المحسن من كان محسنا بالطاعة في هذا التكليف أو من كان محسنا بطاعات أخرى في سائر التكاليف .

أما على التقدير الأول : فالزيادة الموعودة يمكن أن تكون من منافع الدنيا وأن تكون من منافع الدين .

أما الاحتمال الأول : وهو أن تكون من منافع الدنيا ، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة فإنا نزيده سعة في الدنيا ونفتح عليه قرى غير هذه القرية ، وأما الاحتمال الثاني : وهو أن تكون من منافع الآخرة ، فالمعنى أن من كان محسنا بهذه الطاعة والتوبة فإنا نغفر له خطاياه ونزيده على غفران الذنوب إعطاء الثواب الجزيل كما قال : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [يونس : 26] ، أي نجازيهم بالإحسان إحسانا وزيادة كما جعل الثواب للحسنة الواحدة عشرا وأكثر من ذلك ، وأما إن كان المراد من "المحسنين" من كان محسنا بطاعات أخرى بعد هذه التوبة ، فيكون المعنى أنا نجعل دخولكم [ ص: 85 ] الباب سجدا وقولكم حطة مؤثرا في غفران الذنوب ، ثم إذا أتيتم بعد ذلك بطاعات أخرى أعطيناكم الثواب على تلك الطاعات الزائدة .

وفي الآية تأويل آخر ، وهو أن المعنى من كان خاطئا غفرنا له ذنبه بهذا الفعل ، ومن لم يكن خاطئا بل كان محسنا زدنا في إحسانه ، أي كتبنا تلك الطاعة في حسناته وزدناه زيادة منا فيها فتكون المغفرة للمؤمنين والزيادة للمطيعين .

أما قوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا ) ففيه قولان :

الأول : قال أبو مسلم قوله تعالى : ( فبدل ) يدل على أنهم لم يفعلوا ما أمروا به ، لا على أنهم أتوا له ببدل ، والدليل عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المخالفة ، قال تعالى : ( سيقول لك المخلفون من الأعراب ) [الفتح : 11] إلى قوله : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) [الفتح : 15] ولم يكن تبديلهم إلا الخلاف في الفعل لا في القول فكذا هاهنا ، فيكون المعنى أنهم لما أمروا بالتواضع وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله ولم يلتفتوا إليه .

الثاني : وهو قول جمهور المفسرين : أن المراد من التبديل أنهم أتوا ببدل له لأن التبديل مشتق من البدل ، فلا بد من حصول البدل ، وهذا كما يقال : فلان بدل دينه ، يفيد أنه انتقل من دين إلى دين آخر ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : ( قولا غير الذي قيل لهم ) [البقرة : 59] ثم اختلفوا في أن ذلك القول والفعل أي شيء كان ؟ فروي عن ابن عباس أنهم دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا زاحفين على استاههم قائلين حنطة من شعيرة ، وعن مجاهد أنهم دخلوا على أدبارهم وقالوا : حنطة استهزاء ، وقال ابن زيد : استهزاء بموسى ; وقالوا : ما شاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا حطة حطة ، أي شيء حطة .

أما قوله تعالى : ( الذين ظلموا ) فإنما وصفهم الله بذلك إما لأنهم سعوا في نقصان خيراتهم في الدنيا والدين أو لأنهم أضروا بأنفسهم ، وذلك ظلم على ما تقدم .

أما قوله تعالى : ( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء ) ففيه بحثان :

الأول : أن في تكرير : ( الذين ظلموا ) زيادة في تقبيح أمرهم وإيذانا بأن إنزال الرجز عليهم لظلمهم .

الثاني : أن الرجز هو العذاب ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ولما وقع عليهم الرجز ) أي العقوبة ، وكذا قوله تعالى : ( لئن كشفت عنا الرجز ) [الأعراف : 134] وذكر الزجاج أن الرجز والرجس معناهما واحد وهو العذاب .

وأما قوله : ( ويذهب عنكم رجز الشيطان ) [الأنفال : 11] فمعناه لطخه وما يدعو إليه من الكفر . ثم إن تلك العقوبة أي شيء كانت لا دلالة في الآية عليه ، فقال ابن عباس : مات منهم بالفجأة أربعة وعشرون ألفا في ساعة واحدة ، وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي خمس وعشرون ألفا ، ولم يبق منهم أحد .

أما قوله تعالى : ( بما كانوا يفسقون ) ، فالفسق من الخروج المضر ، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وفي الشرع عبارة عن الخروج من طاعة الله إلى معصيته ، قال أبو مسلم : هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله تعالى : ( على الذين ظلموا ) وفائدة التكرار التأكيد ، والحق أنه غير مكرر لوجهين :

الأول : أن الظلم قد يكون من الصغائر ، وقد يكون من الكبائر ، ولذلك وصف الله الأنبياء بالظلم في قوله تعالى : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) [الأعراف : 23] ولو لم يكن الظلم إلا عظيما لكان ذكر العظيم تكريرا ، والفسق لا بد أن يكون من [ ص: 86 ] الكبائر فلما وصفهم الله بالظلم أولا وصفهم بالفسق ثانيا ليعرف أن ظلمهم كان من الكبائر لا من الصغائر .

الثاني : يحتمل أنهم استحقوا اسم الظالم بسبب ذلك التبديل فنزل الرجز عليهم من السماء بسبب ذلك التبديل بل للفسق الذي كانوا فعلوه قبل ذلك التبديل وعلى هذا الوجه يزول التكرار .

النوع الثاني من الكلام في هذه الآية : اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة الأعراف وهو قوله : ( وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ) [الأعراف : 161] واعلم أن من الناس من يحتج بقوله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا ) على أن ما ورد به التوقيف من الأذكار أنه غير جائز تغييرها ولا تبديلها بغيرها ، وربما احتج أصحاب الشافعي رضي الله عنه في أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التعظيم والتسبيح ولا تجوز القراءة بالفارسية وأجاب أبو بكر الرازي بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم ، فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك .

والجواب أن ظاهر قوله : ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم ) يتناول كل من بدل قولا بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أو لم يتفقا ، وهاهنا سؤالات :

السؤال الأول : لم قال في سورة البقرة : ( وإذ قلنا ) وقال في الأعراف : ( وإذ قيل لهم ) [الأعراف : 160] .

الجواب أن الله تعالى صرح في أول القرآن بأن قائل هذا القول هو الله تعالى إزالة للإبهام ولأنه ذكر في أول الكلام : ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) [البقرة : 47] ثم أخذ يعدد ( نعمه ) نعمة نعمة فاللائق بهذا المقام أن يقول : ( وإذ قلنا ) أما في سورة الأعراف فلا يبقى في قوله تعالى : ( وإذ قيل لهم ) [الأعراف : 161] إبهام بعد تقديم التصريح به في سورة البقرة .

السؤال الثاني : لم قال في البقرة : ( وإذ قلنا ادخلوا ) وفي الأعراف : ( اسكنوا ) [الأعراف : 161] ؟ .

الجواب : الدخول مقدم على السكون ولا بد منهما فلا جرم ذكر الدخول في السورة المتقدمة والسكون في السورة المتأخرة .

السؤال الثالث : لم قال في البقرة : ( فكلوا ) بالفاء وفي الأعراف : ( وكلوا ) [الأعراف : 31] بالواو ؟ .

والجواب هاهنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة : ( وكلا منها رغدا ) وفي الأعراف : ( فكلا ) [الأعراف : 19] .

السؤال الرابع : لم قال في البقرة : ( نغفر لكم خطاياكم ) وفي الأعراف : ( نغفر لكم خطيئاتكم ) [الأعراف : 161] .

الجواب : الخطايا جمع الكثرة والخطيئات جمع السلامة فهو للقلة ، وفي سورة البقرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه فقال : ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ) لا جرم قرن به ما يليق بجوده وكرمه وهو غفران الذنوب الكثيرة ، فذكر بلفظ الجمع الدال على الكثرة ، وفي الأعراف لما لم يضف ذلك إلى نفسه بل قال : ( وإذ قيل لهم ) [الأعراف : 161] لا جرم ذكر ذلك بجمع القلة ، فالحاصل أنه لما ذكر الفاعل ذكر ما يليق بكرمه من غفران الخطايا [الكثيرة] وفي الأعراف لما لم يسم الفاعل لم يذكر اللفظ الدال على الكثرة .

السؤال الخامس : لم ذكر قوله : ( رغدا ) في البقرة وحذفه في الأعراف ؟ .

الجواب عن هذا السؤال كالجواب [ ص: 87 ] في الخطايا والخطيئات لأنه لما أسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنعام الأعظم وهو أن يأكلوا رغدا ، وفي الأعراف لما لم يسند الفعل إلى نفسه لم يذكر الإنعام الأعظم فيه .

السؤال السادس : لم ذكر في البقرة : ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) وفي الأعراف قدم المؤخر ؟ .

الجواب : الواو للجمع المطلق وأيضا فالمخاطبون بقوله : ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) ، يحتمل أن يقال : إن بعضهم كانوا مذنبين والبعض الآخر ما كانوا مذنبين ، فالمذنب لا بد أن يكون اشتغاله بحط الذنوب مقدما على الاشتغال بالعبادة لأن التوبة عن الذنب مقدمة على الاشتغال بالعبادات المستقبلة لا محالة ، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا أولا "حطة" ثم يدخلوا الباب سجدا ، وأما الذي لا يكون مذنبا فالأولى به أن يشتغل أولا بالعبادة ثم يذكر التوبة ثانيا على سبيل هضم النفس وإزالة العجب في فعل تلك العبادة فهؤلاء يجب أن يدخلوا الباب سجدا أولا ، ثم يقولوا حطة ثانيا . فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى هذين القسمين لا جرم ذكر الله تعالى حكم كل واحد منهما في سورة أخرى .

السؤال السابع : لم قال : ( وسنزيد المحسنين ) في البقرة مع الواو وفي الأعراف : ( سنزيد المحسنين ) [الأعراف : 161] من غير الواو ؟ .

الجواب : أما في الأعراف فذكر فيه أمرين :

أحدهما : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة .

وثانيها : دخول الباب سجدا وهو إشارة إلى العبادة ، ثم ذكر جزأين :

أحدهما : قوله تعالى : ( نغفر لكم خطاياكم ) وهو واقع في مقابلة قول الحطة .

( والآخر ) قوله : ( سنزيد المحسنين ) وهو واقع في مقابلة دخول الباب سجدا ، فترك الواو يفيد توزع كل واحد من الجزأين على كل واحد من الشرطين . وأما في سورة البقرة فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين أعني دخول الباب وقول الحطة .

السؤال الثامن : قال الله تعالى في سورة البقرة : ( فبدل الذين ظلموا قولا ) وفي الأعراف : ( فبدل الذين ظلموا منهم قولا ) [الأعراف : 161] فما الفائدة في زيادة كلمة "منهم" في الأعراف ؟ .

الجواب : سبب زيادة هذه اللفظة في سورة الأعراف أن أول القصة هاهنا مبني على التخصيص بلفظ "من" لأنه تعالى قال : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [الأعراف : 159] فذكر أن منهم من يفعل ذلك ثم عدد صنوف إنعامه عليهم وأوامره لهم ، فلما انتهت القصة قال الله تعالى : ( فبدل الذين ظلموا منهم ) [الأعراف : 162] فذكر لفظة : ( منهم ) في آخر القصة كما ذكرها في أول القصة ليكون آخر الكلام مطابقا لأوله فيكون الظالمون من قوم موسى بإزاء الهادين منهم فهناك ذكر أمة عادلة ، وهاهنا ذكر أمة جابرة وكلتاهما من قوم موسى فهذا هو السبب في ذكر هذه الكلمة في سورة الأعراف ، وأما في سورة البقرة فإنه لم يذكر في الآيات التي قبل قوله : ( فبدل الذين ظلموا ) تمييزا وتخصيصا حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص فظهر الفرق .

السؤال التاسع : لم قال في البقرة : ( فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا ) وقال في الأعراف : ( فأرسلنا ) [الأعراف : 162] .

الجواب : الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصاله لهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة .

السؤال العاشر : لم قال في البقرة : ( بما كانوا يفسقون ) وفي الأعراف : ( بما كانوا يظلمون ) [الأعراف : 161] .

الجواب : أنه تعالى لما بين في سورة البقرة كون ذلك الظلم فسقا اكتفى بلفظ الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان في سورة البقرة والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية