صفحة جزء
( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات )

ثم قال تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) .

لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر ، وهدى الله المؤمن ، ضرب لهم مثلا بالبصير والأعمى ، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح ، والكافر أعمى ، وفي تفسير الآية مسائل :

المسألة الأولى : ما الفائدة في تكثير الأمثلة ههنا حيث ذكر : الأعمى والبصير ، والظلمة والنور ، والظل والحرور ، والأحياء والأموات ؟ فنقول :

الأول مثل المؤمن والكافر ، فالمؤمن بصير والكافر أعمى ، ثم إن البصير وإن كان حديد البصر ، ولكن لا يبصر شيئا إن لم يكن في ضوء ، فذكر للإيمان والكفر مثلا ، وقال : الإيمان نور والمؤمن بصير والبصير لا يخفى عليه النور ، والكفر ظلمة والكافر أعمى فله صاد فوق صاد ، ثم ذكر لمآلهما ومرجعهما مثلا وهو الظل والحرور ، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة ، والكافر بكفره في حر وتعب ، ثم قال تعالى : ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) مثلا آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى : حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير ، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما ، والكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت ، ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولا : ( وما يستوي الأعمى والبصير ) وعطف الظلمات والنور والظل والحرور ، ثم أعاد الفعل ، وقال : ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) كأنه جعل هذا مقابلا لذلك .

المسألة الثانية : كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء والأموات ، ولم يكرر بين الأعمى والبصير ، وذلك لأن التكرير للتأكيد ، والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة ، فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك ، أما الأعمى والبصير ليس كذلك ، بل الشخص الواحد قد يكون بصيرا وهو بعينه يصير أعمى ، فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف ، والظل والحرور المنافاة بينهما ذاتية ؛ لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد ، فلما كانت المنافاة هناك أتم ، أكد بالتكرار ، وأما الأحياء والأموات ، وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حيا محلا للحياة ، فيصير ميتا [ ص: 16 ] محلا للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير ، كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء ، ولا كذلك الحي والميت ، كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية .

المسألة الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور ، وأخره في مثلين وهو البصر والنور ، وفي مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخي أواخر الآي ، وهو ضعيف ؛ لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع ، ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ ، فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع ، فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى ، وأما القرآن فحكمة بالغة ؛ والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح ، فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى ، فنقول : الكفار قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في ضلالة ، فكانوا كالعمي وطريقهم كالظلمة ، ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق ، واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور ، فقال : وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ، ومن اهتدى بعده إلى الإيمان ، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، والكافر قبل المؤمن قدم المقدم ، ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات : سبقت رحمتي غضبي ، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه ، فقال : ( وما يستوي الأحياء ) أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات ولم ينتفعوا بها ، وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن ، فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين ، وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها .

المسألة الرابعة : فإن قلت : قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد ، وكذلك الظل بالحرور ، وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع ، وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر ، فهل تعرف فيه حكمة ؟ قلت : نعم بفضل الله وهدايته ، أما في الأعمى والبصير والظل والحرور ، فلأنه قابل الجنس بالجنس ، ولم يذكر الأفراد ؛ لأن في العميان وأولي الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع ، والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان ، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه ، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير ، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به ، فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى ، وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر ، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء ، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد ، وأما الظلمات والنور فالحق واحد وهو التوحيد ، والباطل كثير وهو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب ، وبعضهم النار ، وبعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة ، وإلى غير ذلك ، والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد بين ، فقال : الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور ، وقد ذكرنا في تفسير قوله : ( وجعل الظلمات والنور ) ( الأنعام : 1 ) السبب في توحيد النور وجمع الظلمات ، ومن جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور ، ومحل قابل للاستنارة ، وعدم الحائل بين النور والمستنير . مثاله الشمس إذا طلعت وكان هناك موضع قابل للاستنارة ، وهو الذي يمسك الشعاع ، فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع [ ص: 17 ] ويدخل بيتا آخر ويبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئا والأول مظلما ، وإن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء ، فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت ، وإلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة .

التالي السابق


الخدمات العلمية