صفحة جزء
( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )

اعلم أن القراءة المشهورة : ( هادوا ) بضم الدال وعن الضحاك ومجاهد بفتح الدال وإسكان الواو والقراءة المعروفة الصابئين والصابئون بالهمزة فيهما حيث كانا وعن نافع وشيبة والزهري والصابين بياء ساكنة من غير همز ، والصابون بباء مضمومة وحذف الهمزة ، وعن العمري بجعل الهمزة فيهما ، وعن أبي جعفر بياءين خالصتين فهما بدل الهمزة ، فأما ترك الهمزة فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون من صبا يصبو إذا مال إلى الشيء فأحبه .

والآخر : قلب الهمزة فنقول : الصابيين والصابيون والاختيار الهمز لأنه قراءة الأكثر وإلى معنى التفسير أقرب لأن أهل العلم قالوا : هو الخارج من دين إلى دين ، واعلم أن عادة الله إذا ذكر [ ص: 97 ] وعدا أو وعيدا عقبه بما يضاده ليكون الكلام تاما فهاهنا لما ذكر حكم الكفرة من أهل الكتاب وما حل بهم من العقوبة أخبر بما للمؤمنين من الأجر العظيم والثواب الكريم دالا على أنه سبحانه وتعالى يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما قال : ( ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) [النجم : 31] فقال : ( إن الذين آمنوا ) واختلف المفسرون في المراد منه ، وسبب هذا الاختلاف قوله تعالى في آخر الآية : ( من آمن بالله واليوم الآخر ) فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من الإيمان في قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا ) غير المراد منه في قوله تعالى : ( من آمن بالله ) ونظيره في الإشكال قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا آمنوا ) [النساء : 136] فلأجل هذا الإشكال ذكروا وجوها :

أحدها : وهو قول ابن عباس . المراد الذين آمنوا قبل مبعث محمد بعيسى عليهما السلام مع البراءة عن أباطيل اليهود والنصارى مثل قس بن ساعدة ، وبحيرى الراهب وحبيب النجار وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري ووفد النجاشي فكأنه تعالى قال : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد والذين كانوا على الدين الباطل الذي لليهود والذين كانوا على الدين الباطل الذي للنصارى كل من آمن منهم بعد مبعث محمد عليه السلام بالله واليوم الآخر وبمحمد فلهم أجرهم عند ربهم .

وثانيها : أنه تعالى ذكر في أول هذه السورة طريقة المنافقين ثم طريقة اليهود ، فالمراد من قوله تعالى : ( إن الذين آمنوا ) هم الذين يؤمنون باللسان دون القلب وهم المنافقون ، فذكر المنافقين ثم اليهود والنصارى والصابئين فكأنه تعالى قال : هؤلاء المبطلون كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي صار من المؤمنين عند الله وهو قول سفيان الثوري .

وثالثها : المراد من قوله : ( إن الذين آمنوا ) هم المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام في الحقيقة وهو عائد إلى الماضي ، ثم قوله تعالى : ( من آمن بالله ) يقتضي المستقبل فالمراد الذين آمنوا في الماضي وثبتوا على ذلك واستمروا عليه في المستقبل وهو قول المتكلمين .

أما قوله تعالى : ( والذين هادوا ) فقد اختلفوا في اشتقاقه على وجوه :

أحدها : إنما سموا به حين تابوا من عبادة العجل وقالوا : ( إنا هدنا إليك ) [الأعراف : 156] أي تبنا ورجعنا ، وهو عن ابن عباس .

وثانيها : سموا به لأنهم نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب وإنما قالت العرب بالدال للتعريب ، فإن العرب إذا نقلوا أسماء من العجمية إلى لغتهم غيروا بعض حروفها .

وثالثها : قال أبو عمرو بن العلاء : سموا بذلك لأنهم يتهودون أي يتحركون عند قراءة التوراة ، وأما النصارى ففي اشتقاق هذا الاسم وجوه :

أحدها : أن القرية التي كان ينزلها عيسى عليه السلام تسمى ناصرة فنسبوا إليها وهو قول ابن عباس وقتادة وابن جريج .

وثانيها : لتناصرهم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضا .

وثالثها : لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله ، قال صاحب الكشاف : النصارى جمع نصران يقال رجل نصران ، وامرأة نصرانة والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري لأنهم نصرواالمسيح .

أما قوله تعالى : ( والصابئين ) فهو من صبأ إذا خرج من دينه إلى دين آخر ، وكذلك كانت العرب [ ص: 98 ] يسمون النبي عليه السلام صابئا لأنه أظهر دينا بخلاف أديانهم وصبأت النجوم إذا أخرجت من مطلعها . وصبأنا به إذا خرجنا به ، وللمفسرين في تفسير مذهبهم أقوال :

أحدها : قال مجاهد والحسن : هم طائفة من المجوس واليهود لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم .

وثانيها : قال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات . وقال أيضا : الأديان خمسة منها للشيطان أربعة وواحد للرحمن : الصابئون وهم يعبدون الملائكة ، والمجوس وهم يعبدون النار ، والذين أشركوا يعبدون الأوثان ، واليهود والنصارى .

وثالثها : وهو الأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب ، ثم لهم قولان :

الأول : أن خالق العالم هو الله سبحانه ، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم .

والثاني : أن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب ، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض ، والخالقة لها ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ثم إنها تعبد الله سبحانه ، وهذا المذهب هو القول المنسوب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم ومبطلا لقولهم ، ثم إنه سبحانه بين في هذه الفرق الأربعة أنهم إذا آمنوا بالله فلهم الثواب في الآخرة ليعرف أن جميع أرباب الضلال إذا رجعوا عن ضلالهم وآمنوا بالدين الحق فإن الله سبحانه وتعالى يقبل إيمانهم وطاعتهم ولا يردهم عن حضرته البتة ، واعلم أنه قد دخل في الإيمان بالله الإيمان بما أوجبه ، أعني الإيمان برسله ودخل في الإيمان باليوم الآخر جميع أحكام الآخرة ، فهذان القولان قد جمعا كل ما يتصل بالأديان في حال التكليف وفي حال الآخرة من ثواب وعقاب .

أما قوله تعالى : ( عند ربهم ) فليس المراد العندية المكانية ، فإن ذلك محال في حق الله تعالى ، ولا الحفظ كالودائع ، بل المراد أن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند ربهم .

وأما قوله تعالى : ( ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) فقيل : أراد زوال الخوف والحزن عنهم في الدنيا ومنهم من قال في الآخرة في حال الثواب ، وهذا أصح لأن قوله : ( ولا خوف عليهم ) عام في النفي ، وكذلك : ( ولا هم يحزنون ) وهذه الصفة لا تحصل في الدنيا وخصوصا في المكلفين لأنهم في كل وقت لا ينفكون من خوف وحزن ، إما في أسباب الدنيا وإما في أمور الآخرة ، فكأنه سبحانه وعدهم في الآخرة بالأجر ، ثم بين أن من صفة ذلك الأجر أن يكون خاليا عن الخوف والحزن ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائما لأنهم لو جوزوا كونه منقطعا لاعتراهم الحزن العظيم . فإن قال قائل : إن الله تعالى ذكر هذه الآية في سورة المائدة هكذا : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [المائدة : 69] وفي سورة الحج : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ) [الحج : 17] فهل في اختلاف هذه الآيات بتقديم الصنوف وتأخيرها ورفع "الصابئين" في آية ونصبها في أخرى فائدة تقتضي ذلك ؟ .

والجواب : لما كان المتكلم أحكم الحاكمين فلا بد لهذه التغييرات من حكم وفوائد ، فإن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال وإن عجزنا أحلنا القصور على عقولنا لا على كلام الحكيم والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية