صفحة جزء
( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون )

( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون )

كأنه يقول : وأقول أيضا : آية لهم الأرض الميتة ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ما وجه تعلق هذا بما قبله ؟ نقول : مناسب لما قبله من وجهين :

أحدهما : أنه لما قال : ( وإن كل لما جميع ) كان ذلك إشارة إلى الحشر ، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإنكارهم واستبعادهم وإصرارهم وعنادهم ، فقال : ( وآية لهم الأرض الميتة أحييناها ) كذلك نحيي الموتى .

وثانيهما : أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذبين وكان شغلهم التوحيد ذكر ما يدل عليه ، وبدأ بالأرض لكونها مكانهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون .

المسألة الثانية : الأرض آية مطلقا ، فلم خصصها بهم حيث قال : ( وآية لهم ) نقول : الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه ، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له دليل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وعباد الله [ ص: 58 ] المخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء ، فليست الأرض معرفة لهم ، وهذا كما قال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) ( فصلت : 53 ) وقال : ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) ( فصلت : 53 ) يعني أنت كفاك ربك معرفا ، به عرفت كل شيء فهو شهيد لك على كل شيء ، وأما هؤلاء تبين لهم الحق بالآفاق والأنفس ، وكذلك ههنا آية لهم .

المسألة الثالثة : إن قلنا : إن الآية مذكورة للاستدلال على جواز إحياء الموتى ، فيكفي قوله : ( أحييناها ) ولا حاجة إلى قوله : ( وأخرجنا منها حبا ) وغير ذلك ، وإن قلنا : إنها للاستدلال على وجود الإله ووحدته ، فلا فائدة في قوله : ( الأرض الميتة أحييناها ) لأن نفس الأرض دليل ظاهر وبرهان باهر ، ثم هب أنها غير كافية ، فقوله : ( الميتة أحييناها ) كاف في التوحيد ، فما فائدة قوله : ( وأخرجنا منها حبا ) فله فائدة بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى ، وذلك لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حبا كان ذلك إحياء تاما ؛ لأن الأرض المخضرة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحب دون ما تنبته في الحياة ، فكأنه قال تعالى : الذي أحيا الأرض إحياء كاملا منبتا للزرع يحيي الموتى إحياء كاملا بحيث تدرك الأمور ، وأما بالنسبة إلى التوحيد ؛ فلأن فيه تعديد النعم ، كأنه يقول : آية لهم الأرض فإنها مكانهم ومهدهم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم ، والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم ، وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها نعمة ثم إحياؤها بحيث تخضر نعمة ثانية ، فإنها تصير أحسن وأنزه ، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة ، فإن قوتهم يصير في مكانهم ، وكان يمكن أن يجعل الله رزقهم في السماء أو في الهواء فلا يحصل لهم الوثوق ، ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة ؛ لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة ، وأما الأشجار بحيث تؤخذ منها الثمار فتكون بعد الحب وجودا ، ثم فجرنا فيها العيون ليحصل لهم الاعتماد بالحصول ، ولو كان ماؤها من السماء لحصل ، ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين يقع المطر وينزل القطر بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى كل ذلك مفيد ؛ وذلك لأن قوله : ( وأخرجنا منها حبا ) كالإشارة إلى الأمر الضروري الذي لا بد منه .

وقوله : ( وجعلنا فيها جنات ) كالأمر المحتاج إليه الذي إن لم يكن لا يغني الإنسان ، لكنه يبقى مختل الحال ، وقوله : ( وفجرنا فيها من العيون ) إشارة إلى الزينة التي إن لم تكن لا تعني الإنسان ولا يبقى في ورطة الحاجة ، لكنه لا يكون على أحسن ما ينبغي ، وكأن حال الإنسان بالحب كحال الفقير الذي له ما يسد خلته من بعض الوجوه ، ولا يدفع حاجته من كل الوجوه وبالثمار ، ويعتبر حاله كحال المكتفي بالعيون الجارية التي يعتمد عليها الإنسان ويقوي بها قلبه كالمستغني الغني المدخر لقوت سنين ، فيقول الله عز وجل : كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات في الأرض فنحييهم ونعطيهم ما لا بد لهم منه في بقائهم وتكوينهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والقوة الباصرة والأذن والقوة السامعة وغيرهما ، ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل ، فيكون كأنه قال : نحيي الموتى إحياء تاما كما أحيينا الأرض إحياء تاما .

المسألة الرابعة : قال عن ذكر الحب ( فمنه يأكلون ) وفي الأشجار والثمار قال : ( ليأكلوا من ثمره ) وذلك لأن الحب قوت لا بد منه ، فقال : ( فمنه يأكلون ) أي هم آكلوه ، وأما الثمار ليست كذلك ، فكأنه تعالى قال : إن كنا ما أخرجناها كانوا يبقون من غير أكل فأخرجناها ليأكلوها .

[ ص: 59 ] المسألة الخامسة : خصص النخيل والأعناب بالذكر من سائر الفواكه ؛ لأن ألذ المطعوم الحلاوة ، وهي فيها أتم ، ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة ، ولا كذلك غيرهما ؛ ولأنهما أعم نفعا فإنها تحمل من البلاد إلى الأماكن البعيدة ، فإن قيل : فقد ذكر الله الرمان والزيتون في الأنعام والقضب والزيتون والتين في مواضع ، نقول : في الأنعام وغيرها المقصود ذكر الفواكه والثمار ألا ترى إلى قوله تعالى : ( أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ) ( فاطر : 27 ) وإلى قوله : ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ) ( عبس : 24 ) فاستوفى الأنواع بالذكر ، وههنا المقصود ذكر صفات الأرض فاختار منها الألذ الأنفع ، وقد ذكرنا في سورة الأنعام ما يستفاد منه الفوائد ، ويعلم منه فائدة قوله تعالى : ( فاكهة ونخل ورمان ) ( الرحمن : 68 ) .

المسألة السادسة : في المواضع التي ذكر الله الفواكه لم يذكر التمر بلفظ شجرته ، وهي النخلة ، ولم يذكر العنب بلفظ شجرته بل ذكره بلفظ العنب والأعناب ، ولم يذكر الكرم ؛ وذلك لأن العنب شجرته بالنسبة إلى ثمرته حقيرة قليلة الفائدة والنخل بالنسبة إلى ثمرته عظيمة جليلة القدر كثيرة الجدوى ، فإن كثيرا من الظروف منها يتخذ ، وبلحائها ينتفع ولها شبه بالحيوان ، فاختار منها ما هو الأعجب منها ، وقوله تعالى : ( وفجرنا فيها من العيون ) آية عظيمة ؛ لأن الأرض أجزاؤها بحكم العادة لا تصعد ، ونحن نرى منابع الأنهار والعيون في المواضع المرتفعة وذلك دليل القدرة والاختيار ، والقائلون بالطبائع قالوا : إن الجبال كالقباب المبنية ، والأبخرة ترتفع إليها كما ترتفع إلى سقوف الحمامات ، وتتكون هناك قطرات من الماء ثم تجتمع ، فإن لم تكن قوية تحصل المياه الراكدة كالآبار وتجري في القنوات ، إن كانت قوية تشق الأرض وتخرج أنهارا جارية وتجتمع فتحصل الأنهار العظيمة وتمدها مياه الأمطار والثلوج ، فنقول : اختصاص بعض الجبال بالعيون دليل ظاهر على الاختيار وما ذكروه تعسف ، فالحق هو أن الله تعالى خلق الماء في المواضع المرتفعة وساقها في الأنهار والسواقي أو صعد الماء من المواضع المتسفلة إلى الأماكن المرتفعة بأمر الله وجرى في الأودية إلى البقاع التي أنعم الله على أهلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية