صفحة جزء
( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون )

ثم قال تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون )

لما استدل الله بأحوال الأرض ، وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي ، فإن دلالة المكان والزمان مناسبة ؛ لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر والزمان لا تستغني عنه الأعراض ، لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله تعالى : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر ) ( فصلت : 37 ) ثم قال بعده : ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) ( فصلت : 39 ) حيث استدل بالزمان والمكان هناك أيضا ، لكن المقصود أولا هناك إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى : ( لا تسجدوا للشمس ) ( فصلت : 37 ) ثم الحشر بدليل قوله تعالى : ( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ) ( فصلت : 39 ) وههنا المقصود أولا إثبات الحشر ؛ لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر ، يدل عليه النظر في السورة ، وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى فيه : ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) ( فصلت : 9 ) إلى غيره ، وآخر السورتين يبين الأمر ، وفيه مسائل :

[ ص: 62 ] المسألة الأولى : المكان يدفع عن أهل السنة شبه الفلاسفة ، والزمان يدفع عنهم شبه المشبهة .

أما بيان الأول : فذلك لأن الفلسفي يقول : لو كان عدم العالم قبل وجوده لكان عند فرض عدم العالم قبل ، وقبل وبعد لا يتحقق إلا بالزمان ، فقبل العالم زمان والزمان من جملة العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه فإن أجابوا بأن فوق السطح الأعلى لا خلا ولا ملا ، نقول : قبل وجود العالم لا آن ولا زمان موجود .

أما بيان الثاني : فلأن المشبهي يقول : لا يمكن وجود موجود إلا في مكان ، فالله في مكان . فنقول : فيلزمكم أن تقولوا : الله في زمان لأن الوهم كما لا يمكنه أن يقول : هو موجود ولا مكان لا يمكنه أن يقول : هو كان موجودا ولا زمان ، وكل زمان هو حادث ، وقد أجمعنا على أن الله تعالى قديم .

المسألة الثانية : لو قال قائل : إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان ، فلم اختار الليل حيث قال : ( وآية لهم الليل ) ؟ نقول : لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال : ( وآية لهم الأرض ) ( يس : 33 ) استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل .

ووجه آخر : وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات وفيه النوم وهو كالموت ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت ، كما قال في الأرض : ( وآية لهم الأرض الميتة ) فذكر في الزمانين أشبههما بالموت كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت .

المسألة الثالثة : ما معنى سلخ النهار من الليل ؟ نقول : معناه تمييزه منه ، يقال : انسلخ النهار من الليل إذا أتى آخر النهار ودخل أول الليل وسلخه الله منه فانسلخ هو منه ، وأما إذا استعمل بغير كلمة من فقيل : سلخت النهار أو الشمس ، فمعناه دخلت في آخره ، فإن قيل : فالليل في نفسه آية ، فأية حاجة إلى قوله : ( نسلخ منه النهار ) ؟ نقول : الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ، ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها ، وقوله : ( فإذا هم مظلمون ) أي داخلون في الظلام ، وإذا للمفاجأة أي ليس بيدهم بعد ذكر أمر ، ولا بد لهم من الدخول فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية