الوجه الرابع : في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نجعلها صفات لآيات القرآن فقوله : ( 
والصافات صفا   ) المراد 
آيات القرآن فإنها أنواع مختلفة بعضها في دلائل التوحيد وبعضها في دلائل العلم والقدرة والحكمة ، وبعضها في دلائل النبوة ، وبعضها في دلائل المعاد ، وبعضها في بيان التكاليف والأحكام ، وبعضها في تعليم الأخلاق الفاضلة ، وهذه الآيات مرتبة ترتيبا لا يتغير ولا يتبدل فهذه الآيات تشبه أشخاصا واقفين في صفوف معينة ، وقوله : ( 
فالزاجرات زجرا   ) المراد منه الآيات الزاجرة عن الأفعال المنكرة ، وقوله : ( 
فالتاليات ذكرا   ) المراد منه الآيات الدالة على وجوب الإقدام على أعمال البر والخير ، وصف الآيات بكونها تالية على قانون ما يقال شعر شاعر وكلام قائل قال تعالى : ( 
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم   ) [ الإسراء : 9 ] وقال : ( 
يس والقرآن الحكيم   ) [ يس : 2 ] قيل : الحكيم بمعنى الحاكم فهذه جملة الوجوه المحتملة على تقدير أن تجعل هذه الألفاظ الثلاثة صفات لشيء واحد . 
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون المراد بهذه الثلاثة أشياء متغايرة فقيل : المراد بقوله : ( 
والصافات صفا   ) الطير من قوله تعالى : ( 
والطير صافات   ) [ النور : 41 ] " 
فالزاجرات   " كل ما زجر عن معاصي الله " 
فالتاليات   " كل ما يتلى من كتاب الله وأقول فيه وجه آخر ، وهو أن مخلوقات الله إما جسمانية وإما روحانية ، أما الجسمانية فإنها مرتبة على طبقات ودرجات لا تتغير البتة ، فالأرض وسط العالم وهي محفوفة بكرة الماء والماء محفوف بالهواء ، والهواء محفوف بالنار ، ثم هذه الأربعة محفوفة بكرات الأفلاك إلى آخر العالم الجسماني ، فهذه الأجسام كأنها صفوف واقفة على عتبة جلال الله تعالى ، وأما الجواهر الروحانية فهي على اختلاف درجاتها وتباين صفاتها مشتركة في صفتين : 
إحداهما : التأثير في عالم الأجسام بالتحريك والتصريف وإليه الإشارة بقوله : ( 
فالزاجرات زجرا   ) فإنا قد بينا أن المراد من هذا الزجر السوق والتحريك : 
والثاني :   
[ ص: 103 ] الإدراك والاستغراق في معرفة الله تعالى والثناء عليه ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( 
فالتاليات ذكرا   ) ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المستقلة فالتصرف في الجسمانيات أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال الله المقبلة على تسبيح الله كما قال : ( 
ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته   ) [ الأنبياء : 19 ] لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام فقال : ( 
والصافات صفا   ) ثم ذكر في المرتبة الثانية الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم ، ثم ذكر في هذه المرتبة الثالثة أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال الله والاستغراق في الثناء عليه ، فهذه احتمالات خطرت بالبال ، والعالم بأسرار كلام الله تعالى ليس إلا الله . 
المسألة الثالثة : للناس في هذا الموضع قولان : 
الأول : قول من يقول : المقسم به ههنا خالق هذه الأشياء لا أعيان هذه الأشياء ، واحتجوا عليه بوجوه : 
الأول : أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن 
الحلف بغير الله فكيف يليق بحكمة الله أن يحلف بغير الله ؟ . 
والثاني : أن الحلف بالشيء في مثل هذا الموضع تعظيم عظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله . 
والثالث : أن هذا الذي ذكرناه تأكد بما أنه تعالى صرح به في بعض السور وهو قوله تعالى : ( 
والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها   ) [ الشمس : 6 ] . 
والقول الثاني : قول من يقول إن القسم واقع بأعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه . 
الأول : أن القسم وقع بهذه الأشياء بحسب ظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل . 
والثاني : أنه تعالى قال : ( 
والسماء وما بناها   ) فعلق لفظ القسم بالسماء ، ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ، فلو كان المراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز . 
الثالث : أنه لا يبعد أن تكون 
الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذواتها وكمال حقائقها ، لا سيما إذا حملنا هذه الألفاظ على الملائكة فإنه تكون الحكمة في القسم بها التنبيه على جلالة درجاتها وكمال مراتبها والله أعلم ، فإن قيل : ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه : 
الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر والأول باطل ؛ لأن المؤمن مقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل ، فهذا الحلف عديم الفائدة على كل التقديرات . 
الثاني : أنه تعالى حلف في أول هذه السورة على أن الإله واحد ، وحلف في أول سورة والذاريات على أن القيامة حق فقال : ( 
والذاريات ذروا   ) [ الذاريات : 1 ] إلى قوله : ( 
إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع   ) [ الذاريات : 6 ] وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف واليمين لا يليق بالعقلاء ، والجواب من وجوه : 
الأول : أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية ، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها فذكر القسم تأكيدا لما تقدم لا سيما والقرآن إنما أنزل بلغة العرب ، وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب . 
والوجه الثاني : في الجواب أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة 
قوله تعالى : ( إن إلهكم لواحد   ) ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيني في كون الإله واحدا ، وهو قوله تعالى : ( 
رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق   ) وذلك لأنه تعالى بين في قوله : ( 
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا   ) [ الأنبياء : 22 ] أن انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحد ، فههنا لما قال : ( 
إن إلهكم لواحد   ) أردفه بقوله : ( 
رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق   ) كأنه قيل : قد بينا أن النظر في 
انتظام هذا العالم دل على كون الإله واحدا فتأملوا في ذلك الدليل ليحصل لكم العلم بالتوحيد . 
الوجه الثالث : في الجواب أن المقصود من هذا   
[ ص: 104 ] الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل : هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة والله أعلم . 
المسألة الرابعة : أما دلالة أحوال السماوات والأرض على وجود الإله القادر العالم الحكيم ، وعلى كونه واحدا منزها عن الشريك فقد سبق تقريرها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا وأما قوله تعالى : ( 
ورب المشارق   ) فيحتمل أن يكون المراد مشارق الشمس . قال 
السدي    : المشارق ثلاثمائة وستون مشرقا وكذلك المغارب فإنه تطلع الشمس كل يوم من مشرق وتغرب كل يوم في مغرب ، ويحتمل أن يكون المراد مشارق الكواكب ؛ لأن لكل كوكب مشرقا ومغربا ، فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟ قلنا لوجهين : 
الأول : أنه اكتفى بذكر المشارق كقوله : ( 
تقيكم الحر   ) [ النحل : 81 ] . 
والثاني : أن الشرق أقوى حالا من الغروب وأكثر نفعا من الغروب ، فذكر الشرق تنبيها على 
كثرة إحسان الله تعالى على عباده ، ولهذه الدقيقة استدل 
إبراهيم  عليه السلام بالمشرق فقال : ( 
فإن الله يأتي بالشمس من المشرق   ) [ البقرة : 258 ] . 
المسألة الخامسة : احتج الأصحاب بقوله تعالى : ( 
رب السماوات والأرض وما بينهما   ) على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد ، قالوا : لأن أعمال العباد موجودة فيما بين السماوات والأرض ، وهذه الآية دالة على أن 
كل ما حصل بين السماوات والأرض فالله ربه ومالكه ، فهذا يدل على أن 
فعل العبد حصل بخلق الله ، وإن قالوا : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماوات والأرض ؛ لأن هذا الوصف إنما يليق بما يكون حاصلا في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك ، قلنا : إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماوات والأرض فهي أيضا حاصلة بين السماء والأرض .