صفحة جزء
( فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) .

قوله تعالى : ( فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين [ ص: 133 ] سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ) .

اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال : ( فبشرناه بغلام حليم ) أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه ، فقال : ( فلما بلغ معه السعي ) ومعناه فلما أدرك وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي ، وقوله : ( معه ) في موضع الحال والتقدير كائنا معه ، والفائدة في اعتبار هذا المعنى أن الأب أرفق الناس بالولد ، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله ؛ لأنه لم تستحكم قوته ، قال بعضهم : كان في ذلك الوقت ابن ثلاث عشرة سنة ، والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى لما وعده في الآية الأولى بكون ذلك الغلام حليما ، بين في هذه الآية ما يدل على كمال حلمه ، وذلك لأنه كان به من كمال الحلم وفسحة الصدر ما قواه على احتمال تلك البلية العظيمة ، والإتيان بذلك الجواب الحسن .

أما قوله : ( إني أرى في المنام أني أذبحك ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : في تفسير هذه اللفظة وجهان :

الأول : قال السدي : كان إبراهيم حين بشر بإسحاق قبل أن يولد له قال : هو إذن لله ذبيح فقيل لإبراهيم : قد نذرت نذرا فف بنذرك فلما أصبح ( قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك ) .

وروي من طريق آخر أنه رأى ليلة التروية في منامه ، كأن قائلا يقول له : إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح ، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمي يوم التروية ، فلما أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة ، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر ، وهذا هو قول أهل التفسير .

وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة ، وعلى هذا فتقدير اللفظ : إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك .

والقول الثاني : إنه رأى في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي ، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح ، فإن قيل : إما أن يقال إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء عليهم السلام أن كل ما رآه في المنام فهو حق حجة ، أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم ، فإن كان الأول فلم راجع الولد في هذه الواقعة ، بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور ، وأن لا يراجع الولد فيه ، وأن لا يقول له : ( فانظر ماذا ترى ) وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد ( افعل ما تؤمر ) ؟ وأيضا فقد قلتم : إنه بقي في اليوم الأول متفكرا ، ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة ، وإن كان الثاني ، وهو أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يرونه في المنام حق ، فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة ؟ والجواب : لا يبعد أن يقال : إنه كان عند الرؤيا مترددا فيه ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح ، والله أعلم .

المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو ؟ فقيل : إنه إسحاق . وهذا قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم ، وقيل : إنه إسماعيل ، وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي [ ص: 134 ] ومجاهد والكلبي ، واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه :

الأول : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا ابن الذبيحين وقال له أعرابي : " يا ابن الذبيحين " فتبسم فسئل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده ، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله ، وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بمائة من الإبل ، والذبيح الثاني إسماعيل .

الحجة الثانية : نقل عن الأصمعي أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال : يا أصمعي أين عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة ، وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة ؟ .

الحجة الثالثة : أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله : ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ) [ الأنبياء : 85 ] وهو صبره على الذبح ، ووصفه أيضا بصدق الوعد في قوله : ( إنه كان صادق الوعد ) [ مريم : 54 ] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به .

الحجة الرابعة : قوله تعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ هود : 71 ] فنقول : لو كان الذبيح إسحاق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب منه أو بعد ذلك ، فالأول باطل ؛ لأنه تعالى لما بشرها بإسحاق ، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه ، وإلا حصل الخلف في قوله : ( ومن وراء إسحاق ) والثاني باطل ؛ لأن قوله : ( فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك ) يدل على أن ذلك الابن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه ، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحاق .

الحجة الخامسة : حكى الله تعالى عنه أنه قال : ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) ثم طلب من الله تعالى ولدا يستأنس به في غربته فقال : ( رب هب لي من الصالحين ) وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد ؛ لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد ؛ لأن طلب الحاصل محال . وقوله : ( هب لي من الصالحين ) لا يفيد إلا طلب الولد الواحد ، وكلمة من للتبعيض وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله : ( من الصالحين ) لا يفيد إلا طلب الولد الواحد فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد ، فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول ، وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحاق ، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء هو إسماعيل ، ثم إن الله تعالى ذكر عقيبه قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل .

الحجة السادسة : الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة ، فكان الذبيح بمكة . ولو كان الذبيح إسحاق كان الذبح بالشام ، واحتج من قال : إن ذلك الذبيح هو إسحاق بوجهين :

الوجه الأول : أن أول الآية وآخرها يدل على ذلك ، أما أولها فإنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال : ( إني ذاهب إلى ربي سيهدين ) وأجمعوا على أن المراد منه مهاجرته إلى الشام ثم قال : ( فبشرناه بغلام حليم ) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحاق ، ثم قال بعده : ( فلما بلغ معه السعي ) وذلك يقتضي أن يكون المراد من هذا الغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام ، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحاق ، وأما آخر الآية فهو أيضا يدل على ذلك ؛ لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده : [ ص: 135 ] ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) ومعناه أنه بشره بكونه نبيا من الصالحين ، وذكر هذه البشارة عقيب حكاية تلك القصة يدل على أنه تعالى إنما بشره بهذه النبوة لأجل أنه تحمل هذه الشدائد في قصة الذبيح ، فثبت بما ذكرنا أن أول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام .

الحجة الثانية : على صحة ذلك ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف عليه السلام : " من يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله " فهذا جملة الكلام في هذا الباب ، وكان الزجاج يقول : الله أعلم أيهما الذبيح . والله أعلم .

واعلم أنه يتفرع على ما ذكرنا اختلافهم في موضع الذبح فالذين قالوا : الذبيح هو إسماعيل . قالوا : كان الذبح بمنى ، والذين قالوا : إنه إسحاق قالوا : هو بالشام ، وقيل : ببيت المقدس ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية