صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( أو أشد قسوة ) فيه مسائل .

المسألة الأولى : كلمة "أو" للترديد وهي لا تليق بعلام الغيوب ، فلا بد من التأويل وهو وجوه :

أحدها : أنها بمعنى الواو كقوله تعالى : ( إلى مائة ألف أو يزيدون ) [الصافات : 147] بمعنى ويزيدون ، وكقوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن ) [النور : 31] والمعنى وآبائهن وكقوله : ( أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ) [النور : 61] يعني وبيوت آبائكم . ومن نظائره قوله تعالى : ( لعله يتذكر أو يخشى ) [طه : 44] ، ( فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ) [المرسلات : 6] .

وثانيها : أنه تعالى أراد أن يبهمه على العباد فقال ذلك كما يقول المرء لغيره : أكلت خبزا أو تمرا وهو لا يشك أنه أكل أحدهما إذا أراد أن لا يبينه لصاحبه .

وثالثها : أن يكون المراد فهي كالحجارة ، ومنها ما هو أو أشد قسوة من الحجارة .

ورابعها : أن الآدميين إذا اطلعوا على أحوال قلوبهم قالوا : إنها كالحجارة أو هي أشد قسوة من الحجارة وهو المراد في قوله : ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) [النجم : 9] أي في نظركم واعتقادكم .

وخامسها : أن كلمة "أو" بمعنى بل وأنشدوا :


فوالله ما أدري أسلمى تغولت أم القوم أو كل إلي حبيب



قالوا : أراد بل كل .

وسادسها : أنه على حد قولك ما آكل إلا حلوا أو حامضا أي طعامي لا يخرج عن هذين ، بل يتردد عليهما ، وبالجملة : فليس الغرض إيقاع التردد بينهما ، بل نفي غيرهما .

وسابعها : أن "أو" حرف إباحة كأنه قيل بأي هذين شبهت قلوبهم كان صدقا كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين أي أيهما جالست كنت مصيبا ولو جالستهما معا كنت مصيبا أيضا .

المسألة الثانية : قال صاحب الكشاف : "أشد" معطوف على الكاف ، إما على معنى أو مثل : " أو أشد قسوة " فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإما على أو هي أنفسها أشد قسوة .

[ ص: 119 ]

المسألة الثالثة : إنما وصفها بأنها أشد قسوة لوجوه :

أحدها : أن الحجارة لو كانت عاقلة ولقيتها هذه الآية لقبلتها كما قال : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [الحشر : 21] .

وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع مما يحدث فيها بأمر الله تعالى وإن كانت قاسية بل هي منصرفة على مراد الله غير ممتنعة من تسخيره ، وهؤلاء مع ما وصفنا من أحوالهم في اتصال الآيات عندهم وتتابع النعم من الله عليهم يمتنعون من طاعته ، ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه وهو كقوله تعالى : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه ) [الأنعام : 38] إلى قوله تعالى : ( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ) [الأنعام : 39] كأن المعنى أن الحيوانات من غير بني آدم أمم سخر كل واحد منها لشيء وهو منقاد لما أريد منه وهؤلاء الكفار يمتنعون عما أراد الله منهم .

وثالثها : أو أشد قسوة ؛ لأن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ، ويظهر منها الماء في بعض الأحوال ، أما قلوب هؤلاء فلا نفع فيها البتة ولا تلين لطاعة الله بوجه من الوجوه .

المسألة الرابعة : قال القاضي : إن كان تعالى هو الخالق فيهم الدوام على ما هم عليه من الكفر ، فكيف يحسن ذمهم بهذه الطريقة ولو أن موسى عليه السلام خاطبهم فقالوا له : إن الذي خلق الصلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة ، والخالق في الحجارة انفجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا ، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجتهم عليه أوكد من حجته عليهم ، وهذا النمط من الكلام قد تقدم تقريرا وتفريعا مرارا وأطوارا .

المسألة الخامسة : إنما قال : ( أشد قسوة ) ولم يقل أقسى ; لأن ذلك أدل على فرط القسوة ، ووجه آخر وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ، ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل : اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة ، وقرئ "قساوة" وترك ضمير المفضل عليه لعدم الإلباس كقولك : زيد كريم وعمرو أكرم . ثم إنه سبحانه وتعالى فضل الحجارة على قلوبهم بأن بين أن الحجارة قد يحصل منها ثلاثة أنواع من المنافع ، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع .

فأولها : قوله تعالى : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرئ : "وإن" بالتخفيف وهي إن المخففة من الثقيلة التي تلزمها اللام الفارقة ، ومنها قوله تعالى : ( وإن كل لما جميع لدينا محضرون ) [يس : 32] .

المسألة الثانية : التفجر التفتح بالسعة والكثرة ، يقال : انفجرت قرحة فلان ، أي انشقت بالمدة ومنه الفجر والفجور . وقرأ مالك بن دينار "ينفجر" بمعنى وإن من الحجارة ما ينشق فيخرج منه الماء الذي يجري حتى تكون منه الأنهار . قالت الحكماء : إن الأنهار إنما تتولد عن أبخرة تجتمع في باطن الأرض ، فإن كان ظاهر الأرض رخوا انشقت تلك الأبخرة وانفصلت ، وإن كان ظاهر الأرض صلبا حجريا اجتمعت تلك الأبخرة ، ولا يزال يتصل تواليها بسوابقها حتى تكثر كثرة عظيمة فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مدها أن تنشق الأرض وتسيل تلك المياه أودية وأنهارا .

وثانيها : قوله تعالى : ( وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ) ، أي من الحجارة لما ينصدع فيخرج منه الماء فيكون عينا لا نهرا جاريا ، أي أن الحجارة قد تندى بالماء الكثير وبالماء القليل ، وفي ذلك دليل تفاوت الرطوبة فيها ، وأنها قد تكثر في حال حتى يخرج منها ما يجري منه الأنهار ، وقد تقل ، وهؤلاء قلوبهم في نهاية الصلابة لا تندى بقبول شيء من المواعظ ولا تنشرح لذلك ولا تتوجه إلى الاهتداء وقوله تعالى : ( يشقق ) أي يتشقق ، فأدغم التاء كقوله : ( يذكر ) [البقرة : 269] أي يتذكر وقوله : ( ياأيها المزمل ) [ ص: 120 ] [ المزمل : 1] ، ( ياأيها المدثر ) [المدثر : 1] .

وثالثها : قوله تعالى : ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) .

واعلم أن فيه إشكالا وهو أن الهبوط من خشية الله صفة الأحياء العقلاء ، والحجر جماد فلا يتحقق ذلك فيه ، فلهذا الإشكال ذكروا في هذه الآية وجوها :

قول أبي مسلم خاصة وهو أن الضمير في قوله تعالى : ( وإن منها ) راجع إلى القلوب ، فإنه لا يجوز عليها الخشية ، والحجارة لا يجوز عليها الخشية ، وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة ، أقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين ، إلا أن هذا الوصف لما كان لائقا بالقلوب دون الحجارة وجب رجوع هذا الضمير إلى القلوب دون الحجارة ، واعترضوا عليه من وجهين :

الأول : أن قوله تعالى : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) جملة تامة ، ثم ابتدأ تعالى فذكر حال الحجارة بقوله : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) فيجب في قوله تعالى : ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) أن يكون راجعا إليها .

الثاني : أن الهبوط يليق بالحجارة لا بالقلوب ، فليس تأويل الهبوط أولى من تأويل الخشية .

وثانيها : قول جمع من المفسرين : إن الضمير عائد إلى الحجارة ، لكن لا نسلم أن الحجارة ليست حية عاقلة ، بيانه أن المراد من ذلك جبل موسى عليه السلام حين تقطع وتجلى له ربه ، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك ، وهذا غير مستبعد في قدرة الله ، ونظيره قوله تعالى : ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) [فصلت : 21] ، فكما جعل الجلد ينطق ويسمع ويعقل ، فكذلك الجبل وصفه بالخشية ، وقال أيضا : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [الحشر : 21] ، والتقدير أنه تعالى لو جعل فيه العقل والفهم لصار كذلك ، وروي أنه حن الجذع لصعود رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أتاه الوحي في أول المبعث وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله سلمت عليه الأحجار والأشجار ، فكلها كانت تقول : السلام عليك يا رسول الله ، قالوا : فغير ممتنع أن يخلق في بعض الأحجار عقل وفهم حتى تحصل الخشية فيه ، وأنكرت المعتزلة هذا التأويل لما أن عندهم البنية واعتدال المزاج شرط قبول الحياة والعقل ، ولا دلالة لهم على اشتراط البنية إلا مجرد الاستبعاد ، فوجب أن لا يلتفت إليهم .

وثالثها : قول أكثر المفسرين وهو أن الضمير عائد إلى الحجارة ، وأن الحجارة لا تعقل ولا تفهم ، وذكروا على هذا القول أنواعا من التأويل :

الأول : أن من الحجارة ما يتردى من الموضع العالي الذي يكون فيه فينزل إلى أسفل وهؤلاء الكفار مصرون على العناد والتكبر ، فكأن الهبوط من العلو جعل مثلا للانقياد ، وقوله : ( من خشية الله ) ، أي ذلك الهبوط لو وجد من العاقل المختار لكان به خاشيا لله وهو كقوله : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ) [الكهف : 77] ، أي جدارا قد ظهر فيه من الميلان ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حي مختار لكان مريدا للانقضاض ، ونحو هذا قول بعضهم :


بخيل تضل البلق من حجراته     ترى الأكم فيها سجدا للحوافر



وقول جرير :


لما أتى خبر الزبير تضعضعت     سور المدينة والجبال الخشع



فجعل الأول ما ظهر في الأكم من أثر الحوافر مع عدم امتناعها من دفع ذلك عن نفسها كالسجود منها للحوافر ، وكذلك الثاني : جعل ما ظهر في أهل المدينة من آثار الجزع كالخشوع . وعلى هذا الوجه تأول أهل [ ص: 121 ] النظر قوله تعالى : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [الإسراء : 44] ، وقوله تعالى : ( ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض ) [النحل : 49] الآية ، وقوله تعالى : ( والنجم والشجر يسجدان ) [الرحمن : 6] .

الوجه الثاني في التأويل : أن قوله تعالى : ( من خشية الله ) أي ومن الحجارة ما ينزل وما ينشق ويتزايل بعضه عن بعض ، عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خشية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة . وتحقيقه أنه لما كان المقصود الأصلي من إهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل خشية الله تعالى في قلوب العباد صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في حصول ذلك الهبوط ، فكلمة "من" لابتداء الغاية فقوله : ( من خشية الله ) أي بسبب أن تحصل خشية الله في القلوب .

الوجه الثالث : ما ذكره الجبائي وهو أنه فسر الحجارة بالبرد الذي يهبط من السحاب تخويفا من الله تعالى لعباده ليزجرهم به . قال وقوله تعالى : ( من خشية الله ) أي خشية الله ، أي ينزل بالتخويف للعباد أو بما يوجب الخشية لله كما يقال : نزل القرآن بتحريم كذا وتحليل كذا أي بإيجاب ذلك على الناس ، قال القاضي : هذا التأويل ترك للظاهر من غير ضرورة لأن البرد لا يوصف بالحجارة ؛ لأنه وإن اشتد عند النزول فهو ماء في الحقيقة ولأنه لا يليق ذلك بالتسمية .

أما قوله تعالى : ( وما الله بغافل عما تعملون ) فالمعنى أن الله تعالى بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم محصي لها فهو يجازيهم بها في الدنيا والآخرة وهو كقوله تعالى : ( وما كان ربك نسيا ) [مريم : 64] وفي هذا وعيد لهم وتخويف كبير لينزجروا . فإن قيل : هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل ؟ قلنا : قال القاضي : لا يصح لأنه يوهم جواز الغفلة عليه ، وليس الأمر كذلك لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها عليه ، بدليل قوله تعالى : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) [البقرة : 255] ( وهو يطعم ولا يطعم ) [الأنعام : 14] والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية