صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) وفيه أبحاث :

الأول : لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى ; لأن لفظ "ثم" يفيد التراخي ، قالالحسن رحمه الله : القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن بينهما أربعين " ولا أدري أربعون يوما أو شهرا أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة .

الثاني : قوله : ( أخرى ) تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى ، وإنما حسن الحذف لدلالة ( أخرى ) عليها ولكونها معلومة .

الثالث : قوله : ( فإذا هم قيام ) يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ ; لأن الفاء في قوله : ( فإذا هم ) تدل على التعقيب .

الرابع : قوله : ( ينظرون ) وفيه وجهان ; الأول : ينظرون : يقلبون أبصارهم في الجهات ، نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم . والثاني : ينظرون ماذا يفعل بهم ، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والخمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم .

ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد عليها الآن ، بدليل قوله تعالى : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض ) [إبراهيم : 48] وبدليل قوله تعالى : ( وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ) [الحاقة : 14] بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة .

المسألة الثانية : قالت المجسمة : إن الله تعالى نور محض ، فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله ، وأكدوا هذا بقوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) [النور : 35] .

واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه :

الأول : أنا بينا في تفسير قوله تعالى : ( الله نور السماوات والأرض ) [ ص: 18 ] أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نورا ، بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة ، وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور هاهنا على العدل ، فنحتاج هاهنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى ، ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور هاهنا ليس إلا هذا المعنى ، أما بيان الاستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك ، وأضاءت الدنيا بقسطك ، كما يقولون : أظلمت البلاد بجورك ، وقال صلى الله عليه وسلم : " الظلم ظلمات يوم القيامة " وأما بيان أن المراد من النور هاهنا العدل فقط أنه قال : ( وجيء بالنبيين والشهداء ) ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل ، وأيضا قال في آخر الآية : ( وهم لا يظلمون ) فدل هذا على أن المراد من ذلك النور إزالة ذلك الظلم ، فكأنه تعالى فتح هذه الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم .

والوجه الثاني : في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى ، ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى ; لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب ، فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه إلى نفسه ، كان ذلك النور نور الله ، كقوله : بيت الله ، وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول ; لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى المجاز .

والوجه الثالث : أنه قد قال : فلان رب هذه الأرض ورب هذه الدار ورب هذه الجارية ، ولا يبعد أن يكون رب هذه الأرض ملكا من الملوك ، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع كونه نورا .

المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر في هذه الآية من أحوال ذلك اليوم أشياء :

أولها : قوله : ( وأشرقت الأرض بنور ربها ) وقد سبق الكلام فيه .

وثانيها : قوله : ( ووضع الكتاب ) وفي المراد بالكتاب وجوه ; الأول : أنه اللوح المحفوظ الذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت قيام القيامة . الثاني : المراد كتب الأعمال كما قال تعالى في سورة سبحان : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) [الإسراء : 13] وقال أيضا في آية أخرى : ( مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [الكهف : 49] .

وثالثها : قوله : ( وجيء بالنبيين ) والمراد أن يكونوا شهداء على الناس ، قال تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [النساء : 41] وقال تعالى : ( يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ) [المائدة : 109]

ورابعها : قوله : ( والشهداء ) والمراد ما قاله في ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) [البقرة : 143] أو أراد بالشهداء المؤمنين ، وقال مقاتل : يعني الحفظة ، ويدل عليه قوله تعالى : ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ق : 21] وقيل : أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل الله .

ولما بين الله تعالى أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات ، بين تعالى أنه يوصل إلى كل أحد حقه ، وعبر تعالى عن هذا المعنى بأربع عبارات ؛ أولها : قوله تعالى : ( وقضي بينهم بالحق ) وثانيها : قوله : ( وهم لا يظلمون ) . وثالثها : قوله : ( ووفيت كل نفس ما عملت ) أي وفيت كل نفس جزاء ما عملت . ورابعها : قوله : ( وهو أعلم بما يفعلون ) يعني أنه تعالى إذا لم يكن عالما بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي بالحق ؛ لأجل عدم العلم ، أما إذا كان عالما بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ في ذلك الحكم ، فثبت أنه تعالى عبر عن هذا المقصود بهذه العبارات المختلفة ، والمقصود المبالغة في تقرير أن كل مكلف فإنه يصل إلى حقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية