صفحة جزء
أما قوله : إن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة ، قلنا : لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى ; إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم ، ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم : ( والله ربنا ما كنا مشركين ) [الأنعام : 23] كذبهم الله في ذلك فقال : ( انظر كيف كذبوا ) [الأنعام : 24] . وأما قوله : ظاهر الآية يمنع من إثبات حياة في القبر ; إذ لو حصلت هذه الحياة لكان عدد الحياة ثلاث مرات لا مرتين ، فنقول : الجواب عنه من وجوه :

الأول : هو أن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة : الموتة الأولى ، والحياة في القبر ، والموتة الثانية ، والحياة في القيامة ، فهذه الأربعة أوقات البلاء والمحنة ، فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء والمحنة ; فلهذا السبب لم يذكروها .

الثاني : لعلهم ذكروا الحياتين ; وهي الحياة في الدنيا ، والحياة في القيامة ، أما الحياة في القبر فأهملوا ذكرها لقلة وجودها وقصر مدتها .

الثالث : لعلهم لما صاروا أحياء في القبور لم يموتوا بل بقوا أحياء ، إما في السعادة ، وإما في الشقاوة ، واتصل بها حياة القيامة فكانوا من جملة من أرادهم الله بالاستثناء في قوله : ( فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) [الزمر : 68] .

الرابع : لو لم نثبت الحياة في القبر لزم أن لا يحصل الموت إلا مرة واحدة فكان إثبات الموت مرتين كذبا وهو على خلاف لفظ القرآن ، أما لو أثبتنا الحياة في القبر لزمنا إثبات الحياة ثلاث مرات ، والمذكور في القرآن [ ص: 37 ] مرتين ، أما المرة الثالثة فليس في اللفظ ما يدل على ثبوتها أو عدمها ، فثبت أن نفي حياة القبر يقتضي ترك ما دل اللفظ عليه ، فأما إثبات حياة القبر فإنه يقتضي إثبات شيء زائد على ما دل عليه اللفظ مع أن اللفظ لا إشعار فيه بثبوته ولا بعدمه ، فكان هذا أولى ، وأما ما ذكروه في المعارضة الأولى فنقول : قوله : ( يحذر الآخرة ) تدخل فيه الحياة الآخرة سواء كانت في القبر أو في القيامة ، وأما المعارضة الثانية فجوابها أنا نرجح قولنا بالأحاديث الصحيحة الواردة في عذاب القبر .

وأما الوجهان العقليان فمدفوعان ; لأنا إذا قلنا : إن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو عبارة عن جسم نوراني سار في هذا البدن ، كانت الإشكالات التي ذكرتموها غير واردة في هذا الباب . والله أعلم .

المسألة الثانية : اعلم أنا لما أثبتنا حياة القبر فيكون الحاصل في حق بعضهم أربعة أنواع من الحياة وثلاثة أنواع من الموت ، والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة : ( ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ) [البقرة : 243] فهؤلاء أربع مراتب في الحياة ، حياتان في الدنيا ، وحياة في القبر ، وحياة رابعة في القيامة .

المسألة الثالثة : قوله : ( اثنتين ) نعت لمصدر محذوف والتقدير إماتتين اثنتين .

ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا : ( فاعترفنا بذنوبنا ) فإن قيل : الفاء في قوله ( فاعترفنا ) تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سببا لهذا الاعتراف فبينوا هذه السببية ، قلنا : لأنهم كانوا منكرين للبعث فلما شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث ، فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن ذلك الإحياء وتلك الإماتة ، ثم قال : ( فهل إلى خروج من سبيل ) أي هل إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل ، أم اليأس وقع فلا خروج ، ولا سبيل إليه؟ وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، واعلم أن الجواب الصريح عنه أن يقال : لا أو نعم ، وهو تعالى لم يفعل ذلك بل ذكر كلاما يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج فقال : ( ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا ) أي ذلكم الذي أنتم فيه ، وهو أن لا سبيل لكم إلى الخروج قط ، إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى ، وإيمانكم بالإشراك به ( فالحكم لله ) حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي ، وقوله : ( العلي الكبير ) دلالة على الكبرياء والعظمة ، وعلى أن عقابه لا يكون إلا كذلك ، والمشبهة استدلوا بقوله تعالى : ( العلي ) على العلو الأعلى في الجهة ، وبقوله : ( الكبير ) على كبر الجثة والذات ، وكل ذلك باطل ; لأنا دللنا على أن الجسمية والمكان محالان في حق الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد من ( العلي الكبير ) العلو والكبرياء بحسب القدرة والإلهية .

التالي السابق


الخدمات العلمية