1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة غافر
  4. قوله تعالى هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب
صفحة جزء
واعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك اليوم أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : هذا الكلام اشتمل على أمور ثلاثة ؛ أولها : إثبات الكسب للإنسان . والثاني : أن كسبه يوجب الجزاء . والثالث : أن ذلك الجزاء إنما يستوفى في ذلك اليوم ، فهذه الكلمة على اختصارها مشتملة على هذه الأصول الثلاثة في هذا الكتاب ، وهي أصول عظيمة الموقع في الدين ، وقد سبق تقرير هذه الأصول مرارا ، ولا بأس بذكر بعض النكت في تقرير هذه الأصول . أما الأول : فهو إثبات الكسب للإنسان وهو عبارة عن كون أعضائه سليمة صالحة للفعل والترك ، فما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع صدور الفعل والترك عنه ، فإذا انضاف إليه الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى الترك وجب صدور ذلك الفعل أو الترك عنه .

وأما الثاني : وهو بيان ترتب الجزاء عليه ، فاعلم أن الأفعال على قسمين ، منها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الجسمانية الحاصلة في عالم الدنيا ، ومنها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الروحانية التي لا يظهر كمالها إلا في عالم الآخرة ، وقد ثبت بالتجربة أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة ، فمن غلب عليه القسم الأول استحكمت رغبته في الدنيا وفي الجسمانيات ، فعند الموت يحصل الفراق بينه وبين مطلوبه على أعظم الوجوه ، ويعظم عليه البلاء ، ومن غلب عليه القسم الثاني فعند الموت يفارق المبغوض ويتصل بالمحبوب فتعظم الآلاء والنعماء ، فهذا هو معنى الكسب ومعنى كون ذلك الكسب موجبا للجزاء ، فظهر بهذا أن كمال الجزاء لا يحصل إلا في يوم القيامة ، فهذا قانون كلي عقلي ، والشريعة الحقة أتت بما يقوي هذا القانون الكلي في تفاصيل الأعمال والأقوال . والله أعلم .

المسألة الثانية : هذه الآية أصل عظيم في أصول الفقه ، وذلك لأنا نقول : لو كان شيء من أنواع الضرر [ ص: 43 ] مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا لكونه جزاء على شيء من الجنايات أو لا لكونه جزاء ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه مشروعا ، أما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعا ليكون جزاء على شيء من الأعمال ، فلأن هذا النص يقتضي تأخير الأجزية إلى يوم القيامة ، فإثباته في الدنيا يكون على خلاف هذا النص ، وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعا للجزاء لقوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [البقرة : 185] ولقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج : 78] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " عدلنا عن هذه العمومات فيما إذا كانت المضار أجزية ، وفيما ورد نص في الإذن فيه كذبح الحيوانات ، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فيما عداه ، فثبت بما ذكرنا أن الأصل في المضار والآلام التحريم ، فإن وجدنا نصا خاصا يدل على الشرعية قضينا به تقديما للخاص على العام ، وإلا فهو باق على أصل التحريم ، وهذا أصل كلي منتفع به في الشريعة . والله أعلم .

الصفة السادسة من صفات ذلك اليوم قوله : ( لا ظلم اليوم ) والمقصود أنه لما قال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) أردفه بما يدل على أنه لا يقع في ذلك نوع من أنواع الظلم ، قال المحققون : وقوع الظلم في الجزاء يقع على أربعة أقسام ، أحدها : أن يستحق الرجل ثوابا فيمنع منه . وثانيها : أن يعطي بعض بعض حقه ولكنه لا يوصل إليه حقه بالتمام . وثالثها : أن يعذب من لا يستحق العذاب . ورابعها : أن يكون الرجل مستحقا للعذاب فيعذب ويزاد على قدر حقه ، فقوله تعالى : ( لا ظلم اليوم ) يفيد نفي هذه الأقسام الأربعة ، قال القاضي : هذه الآية قوية في إبطال قول المجبرة ; لأن على قولهم لا ظلم غالبا وشاهدا إلا من الله ، ولأنه تعالى إذا خلق فيه الكفر ثم عذبه عليه فهذا هو عين الظلم ، والجواب عنه معلوم .

ثم قال تعالى : ( إن الله سريع الحساب ) وذكر هذا الكلام في هذا الموضع لائق جدا ; لأنه تعالى لما بين أنه لا ظلم بين أنه سريع الحساب . وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية