صفحة جزء
المسألة الحادية عشرة :

إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز ، وأما حديث الحنث والبر : فذلك لأن مبنى الإيمان على العرف ، وإذا قلنا : كلام الله قديم لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات ، وإذا قلنا : كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة ، فإن القديم كان موجودا قبل محمد عليه الصلاة والسلام ، فكيف يكون معجزة له ؟ وإذا قلنا : كلام الله سور وآيات عنينا به هذه الحروف ، وإذا قلنا : كلام الله فصيح عنينا به هذه الألفاظ ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضا هذه الألفاظ . [ ص: 37 ]

المسألة الثانية عشرة :

زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى وهذا باطل ؛ لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته ، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى وحالة في بدن هذا الإنسان ، وهذا معلوم الفساد بالضرورة ، وأيضا فهذا عين ما يقوله النصارى من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح ، وزعموا أنه حالة في ناسوت عيسى عليه السلام ، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى وغير زائلة عنه ، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حال في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ، ولا فرق بين القولين إلا أن النصارى قالوا بهذا القول في حق عيسى وحده ، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب .

المسألة الثالثة عشرة :

قالت الكرامية : الكلام اسم للقدرة على القول ، بدليل أن القادر على النطق يقال إنه متكلم ، وإن لم يكن في الحال مشتغلا بالقول ، وأيضا فضد الكلام هو الخرس ، لكن الخرس عبارة عن العجز عن القول ، فوجب أن يكون الكلام عبارة عن القدرة على القول ، وإذا ثبت هذا فهم يقولون : إن كلام الله تعالى قديم ، بمعنى أن قدرته على القول قديمة ، أما القول فإنه حادث هذا تفصيل قولهم وقد أبطلناه .

المسألة الرابعة عشرة :

قالت الحشوية للأشعرية : إن كان مرادكم من قولكم " إن القرآن قديم " هو أن هذا القرآن دال على صفة قديمة متعلقة بجميع المأمورات والمحرمات وجب أن يكون كل كتاب صنف في الدنيا قديما : لأن ذلك الكتاب له مدلول ومفهوم ، وكلام الله سبحانه وتعالى لما كان عام التعلق بجميع المتعلقات كان خبرا عن مدلولات ذلك الكتاب ، فعلى هذا التقدير لا فرق بين القرآن وبين سائر كتب الفحش والهجو في كونه قديما بهذا التفسير ، وإن كان المراد من كونه قديما وجها آخر سوى ذلك فلا بد من بيانه .

والجواب : أنا لا نلتزم كون كلامه تعالى متعلقا بجميع المخبرات ، وعلى هذا التقدير فيسقط هذا السؤال .

واعلم أنا لا نقول : إن كلامه لا يتعلق بجميع المخبرات لكونها كذبا ، والكذب في كلام الله محال : لأنه تعالى لما أخبر أن أقواما أخبروا عن تلك الأكاذيب والفحشيات فهذا لا يكون كذبا ، وإنما يمنع منه لأمر يرجع إلى تنزيه الله تعالى عن النقائص ، والإخبار عن هذه الفحشيات والسخفيات يجري مجرى النقص ، وهو على الله محال .

واعلم أن مباحث الحرف والصوت وتشريح العضلات الفاعلات للحروف ، وذكر الإشكالات المذكورة في قدم القرآن أمور صعبة دقيقة ، فالأولى الاكتفاء بما ذكرناه والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية