وأما قوله : ( 
في أيام نحسات   ) ففيه مسائل :  
[ ص: 98 ] المسألة الأولى : قرأ 
نافع  وابن كثير  وأبو عمرو    " نحسات " بسكون الحاء ، والباقون بكسر الحاء ، قال صاحب " الكشاف " يقال نحس نحسا نقيض سعد سعدا فهو نحس ، وأما نحس فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر . 
المسألة الثانية : استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحسا وبعضها قد يكون سعدا ، وقالوا : هذه الآية صريحة في هذا المعنى ، أجاب المتكلمون بأن قالوا ( 
أيام نحسات   ) أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف ، وأيضا قالوا : معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها ، أجاب المستدل الأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشئومات لأن السعد يقابله السعد ، والكدر يقابله الصافي ، وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات ، فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايرا لذلك العذاب الذي وقع فيها . 
ثم قال تعالى : ( 
لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا   ) أي عذاب الهوان والذل ، والسبب فيه أنهم استكبروا ، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الخزي والهوان والذل إليهم . 
ثم قال تعالى : ( 
ولعذاب الآخرة أخزى   ) أي أشد إهانة وخزيا ( 
وهم لا ينصرون   ) أي أنهم يقعون في الخزي الشديد ، ومع ذلك فلا يكون لهم ناصر يدفع ذلك الخزي عنهم . 
ولما ذكر الله قصة 
عاد  أتبعه بقصة 
ثمود    : فقال : ( وأما ثمود ) قال صاحب " الكشاف " قرئ " ثمود " بالرفع والنصب منونا وغير منون ، والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء ، وقرئ بضم الثاء ، وقوله ( فهديناهم ) أي دللناهم على طريق الخير والشر ( 
فاستحبوا العمى على الهدى   ) أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد . 
واعلم أن صاحب " الكشاف " ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى : ( 
هدى للمتقين   ) [ البقرة : 2 ] أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية ، وهذه الآية تبطل قوله ؛ لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل ، فثبت أن قيد كونه مفضيا إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى . 
وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جوابا شافيا فتركناه ، قالت 
المعتزلة    : هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل ، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد ؛ لأن قوله ( 
وأما ثمود فهديناهم   ) يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل ، وقوله ( 
فاستحبوا العمى على الهدى   ) يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى ، فهذا يدل على أن 
الكفر والإيمان يحصلان من العبد ، وأقول : بل هذه الآية من أدل الدلائل على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد ، وبيانه من وجهين :
الأول : أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى ؛ لأنهم أحبوا تحصيله ، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده ، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل ، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب ، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب . 
الثاني : أنه تعالى قال : ( 
فاستحبوا العمى على الهدى   ) ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلا ، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلما لا يرغب فيه ، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقا بجهل آخر ، فإن كان ذلك   
[ ص: 99 ] الجهل الثاني باختياره أيضا لزم التسلسل وهو محال ، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب ، ولما وصف الله كفرهم قال : ( 
فأخذتهم صاعقة العذاب الهون   ) و ( 
صاعقة العذاب   ) أي داهية العذاب و ( الهون ) الهوان ، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه ( بما كانوا يكسبون ) يريد من شركهم وتكذيبهم 
صالحا  وعقرهم الناقة ، وشرع صاحب " الكشاف " ههنا في سفاهة عظيمة ، والأولى أن لا يلتفت إليه لأنه وإن كان قد سعى سعيا حسنا فيما يتعلق بالألفاظ ، إلا أن المسكين كان بعيدا من المعاني . 
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال : ( 
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون   ) يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم 
عاد  وثمود  ، فإن قيل : 
كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد  وثمود  ، مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة 
محمد  صلى الله عليه وسلم ، وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله ( 
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم   ) [ الأنفال : 33 ] وجاء في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات ، قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين 
لعاد  وثمود  في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك ، وإن كان أقل درجة منهم وهذا القدر يكفي في التخويف .