صفحة جزء
[ ص: 111 ] ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير )

قوله تعالى : ( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير )

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته ، تنبيها على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته ، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات ، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن ، وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض ، فبدأ ههنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار .

وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم ، والنور وجود ، والعدم سابق على الوجود ، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء ، وأما دلالة الشمس والقمر والأفلاك وسائر الكواكب على وجود الصانع ، فقد شرحناها في هذا الكتاب مرارا ، لا سيما في تفسير قوله : ( الحمد لله رب العالمين ) [ الفاتحة : 2 ] وفي تفسير قوله : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) [ الأنعام : 1 ] .

ولما بين أن الشمس والقمر محدثان ، وهما دليلان على وجود الإله القادر قال : ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ) يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله ، والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات ، فقال : ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر ) لأنهما عبدان مخلوقان ( واسجدوا لله ) الخالق القادر الحكيم ، والضمير في قوله ( خلقهن ) لليل والنهار والقمر ؛ لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث ، يقال للأقلام بريتها وبريتهن ، ولما قال : ( من آياته ) كن في معنى الإناث ، فقال : ( خلقهن ) وإنما قال : ( إن كنتم إياه تعبدون ) لأن ناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق الأشياء ، فإن قيل إذا كان لا بد في الصلاة من قبلة معينة ، فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى ، قلنا : الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة ، فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات ، فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا لله ، [ ص: 112 ] فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود ، بخلاف الحجر المعين فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية ، فكان المقصود من القبلة حاصلا والمحذور المذكور زائلا ، فكان هذا أولى ، واعلم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن موضع السجود هو قوله : ( تعبدون ) لأجل أن قوله : ( واسجدوا لله ) متصل به ، وعند أبي حنيفة هو قوله : ( وهم لا يسأمون ) لأن الكلام إنما يتم عنده .

ثم إنه تعالى لما أمر بالسجود قال بعده ( فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ) وفيه سؤالات :

السؤال الأول : إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقل وأذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى ، ولكنا عبيد للشمس وهما عبدان لله ، وإذا كان قول هؤلاء هكذا ، فكيف يليق أن يقال : إنهم استكبروا عن السجود لله ؟

والجواب : ليس المراد من لفظ الاستكبار ما ذكرتم ، بل المراد فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر .

السؤال الثاني : أن المشبهة تمسكوا بقوله : ( فالذين عند ربك ) في إثبات المكان والجهة لله تعالى ، والجواب : أنه يقال : عند الملك من الجند كذا وكذا ، ولا يراد به قرب المكان . فكذا ههنا ، ويدل عليه قوله : " أنا عند ظن عبدي بي وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر " ويقال عند الشافعي رضي الله عنه إن المسلم لا يقتل بالذمي .

السؤال الثالث : هل تدل هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر ؟ الجواب : نعم ، لأنه إنما يستدل بحال الأعلى على حال الأدون ، فيقال : هؤلاء الأقوام إن استكبروا عن طاعة فلان فالأكابر يخدمونه ويعترفون بتقدمه ، فثبت أن هذا النوع من الاستدلال إنما يحسن بحال الأعلى على حال الأدون .

السؤال الرابع : قال ههنا في صفة الملائكة : ( يسبحون الليل والنهار ) فهذا يدل على أنهم مواظبون على التسبيح ، لا ينفكون عنه لحظة واحدة ، واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال ككونهم ينزلون إلى الأرض كما قال : ( نزل به الروح الأمين على قلبك ) [ الشعراء : 193 ] وقال : ( ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) [ الحجر : 51 ] وقوله تعالى : ( عليها ملائكة غلاظ شداد ) [ التحريم : 6 ] .

الجواب : إن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة وهم الأشراف الأكابر منهم ؛ لأنه تعالى وصفهم بكونهم عنده ، والمراد من هذه العندية كمال الشرف والمنقبة ، وهذا لا ينافي كون طائفة أخرى من الملائكة مشتغلين بسائر الأعمال ، فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك إلا أنهم لا بد وأن يتنفسوا ، فاشتغالهم بذلك التنفس يصدهم عن تلك الحالة من التسبيح .

قلنا كما أن التنفس سبب لصلاح حال الحياة بالنسبة إلى البشر ، فذكر الله تعالى سبب لصلاح حالهم في حياتهم ، ولا يجب على العاقل المنصف أن يقيس أحوال الملائكة في صفاء جوهرها وإشراق ذواتها واستغراقها في معارج معارف الله بأحوال البشر ، فإن بين الحالتين بعد المشرقين .

ثم قال تعالى : ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ) .

واعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر ، أتبعها بذكر آية [ ص: 113 ] أرضية فقال : ( ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة ) والخشوع التذلل والتصاغر ، واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات ( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) أي تحركت بالنبات ، وربت : انتفخت ؛ لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ، ثم تصدعت عن النبات ، ثم قال : ( إن الذي أحياها لمحيي الموتى ) يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها .

وقد ذكرنا تقرير هذا الدليل مرارا لا حصر لها ، ثم قال : ( إنه على كل شيء قدير ) وهذا هو الدليل الأصلي وتقريره إن عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته ، وعودة الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الأجزاء بعد اجتماعها أيضا أمر ممكن لذاته ، والله تعالى قادر على الممكنات ، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء ، وهذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه البتة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية