صفحة جزء
المسألة السادسة : ثبت أن الوحي من الله تعالى ، إما أن لا يكون بواسطة شخص آخر ، ويمتنع أن يكون كل وحي حاصلا بواسطة شخص آخر ، وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور ، وهما محالان ، فلا بد من الاعتراف بحصول وحي يحصل لا بواسطة شخص آخر ، ثم ههنا أبحاث :

البحث الأول : أن الشخص الأول الذي سمع وحي الله لا بواسطة شخص آخر كيف يعرف أن الكلام الذي سمعه - كلام الله ، فإن قلنا إنه سمع تلك الصفة القديمة المنزهة عن كونها حرفا وصوتا ، لم يبعد أنه إذا سمعها علم بالضرورة كونها كلام الله تعالى ، ولم يبعد أن يقال إنه يحتاج بعد ذلك إلى دليل زائد ، أما إن قلنا إن المسموع هو الحرف والصوت امتنع أن يقطع بكونه كلاما لله تعالى ، إلا إذا ظهرت دلالة على أن ذلك المسموع هو كلام الله تعالى .

البحث الثاني : أن الرسول إذا سمعه من الملك كيف يعرف أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان مضل ؟ والحق أنه لا يمكنه القطع بذلك إلا بناء على معجزة تدل على أن ذلك المبلغ ملك معصوم ، لا شيطان خبيث ، وعلى هذا التقدير فالوحي من الله تعالى لا يتم إلا بثلاث مراتب في ظهور المعجزات :

المرتبة الأولى : أن الملك إذا سمع ذلك الكلام من الله تعالى فلا بد له من معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى .

المرتبة الثانية : أن ذلك الملك إذا وصل إلى الرسول لا بد له أيضا من معجزة .

المرتبة الثالثة : أن ذلك الرسول إذا أوصله إلى الأمة ، فلا بد له أيضا من معجزة ، فثبت أن التكليف لا يتوجه على الخلق إلا بعد وقوع ثلاث مراتب في المعجزات .

البحث الثالث : أنه لا شك أن ملكا من الملائكة قد سمع الوحي من الله تعالى ابتداء ، فذلك الملك هو جبريل ، ويقال : لعل جبريل سمعه من ملك آخر ، فالكل محتمل ولو بألف واسطة ، ولم يوجد ما يدل على القطع بواحد من هذه الوجوه .

البحث الرابع : هل في البشر من سمع وحي الله تعالى من غير واسطة ؟ المشهور أن موسى - عليه السلام - سمع كلام الله من غير واسطة ، بدليل قوله تعالى : ( فاستمع لما يوحى ) وقيل : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - سمعه أيضا لقوله تعالى : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) [النجم : 10] .

البحث الخامس : أن الملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة ، فبتقدير أن يراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل مرة وجب أن يحتاج إلى المعجزة ، ليعرف أن هذا الذي رآه في هذه المرة عين ما رآه في المرة الأولى ، وإن كان لا يرى شخصه كانت الحاجة إلى المعجزة أقوى ، لاحتمال أنه حصل الاشتباه في [ ص: 163 ] الصوت ، إلا أن الإشكال في أن الحاجة إلى إظهار المعجزة في كل مرة لم يقل به أحد .

المسألة السابعة : دلت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة ، فذلك هل يسمى وحيا من الله تعالى إلى إبليس أو لا ، الأظهر منعه ، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل .

المسألة الثامنة : قرأ نافع " أو يرسل رسولا " برفع اللام ، " فيوحي " بسكون الياء ومحله رفع ؛ على تقدير : وهو يرسل فيوحي ، والباقون بالنصب على تأويل المصدر ، كأنه قيل : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو إسماعا لكلامه من وراء حجاب أو يرسل ، لكن فيه إشكال ؛ لأن قوله وحيا أو إسماعا اسم ، وقوله ( أو يرسل ) فعل ، وعطف الفعل على الاسم قبيح ، فأجيب عنه بأن التقدير : وما كان لبشر أن يكلمه إلا أن يوحي إليه وحيا أو يسمع إسماعا من وراء حجاب أو يرسل رسولا .

المسألة التاسعة : الصحيح عند أهل الحق أن عندما يبلغ الملك الوحي إلى الرسول ، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي ، وقال بعضهم : يجوز ذلك لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) [ الحج : 52 ] وقالوا : الشيطان ألقى في أثناء سورة النجم " تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى " وكان صديقنا الملك سام بن محمد رحمه الله وكان أفضل من لقيته من أرباب السلطنة يقول : هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة باطل من وجهين آخرين :

الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول ، فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى ؟

والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما سلك عمر فجا إلا وسلك الشيطان فجا آخر فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد ، فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى ؟

المسألة العاشرة : قوله تعالى : ( فيوحي بإذنه ما يشاء ) يعني فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله ، وهذا يقتضي أن الحسن لا يحسن لوجه عائد عليه ، وأن القبيح لا يقبح لوجه عائد إليه ، بل لله أن يأمر بما يشاء من غير تخصيص ، وأن ينهى عما يشاء من غير تخصيص ، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله ( ما يشاء ) والله أعلم .

ثم قال تعالى في آخر الآية ( إنه علي حكيم ) يعني أنه علي عن صفات المخلوقين ( حكيم ) يجري أفعاله على موجب الحكمة ، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام ، وأخرى بإسماع الكلام ، وثالثا بتوسيط الملائكة الكرام ، ولما بين الله تعالى كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام ، قال : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ) والمراد به القرآن ، وسماه روحا ، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية