صفحة جزء
( وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون )

قوله تعالى ( وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون )

اعلم أنه تعالى لما قال ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [لقمان: 25] بين أنهم مع إقرارهم بذلك ، جعلوا له من عباده جزءا ، والمقصود منه التنبيه على قلة عقولهم وسخافة عقولهم . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : " جزء " بضم الزاي والهمزة في كل القرآن ، وهما لغتان ، وأما حمزة فإذا وقف عليه ، قال : " جزا " بفتح الزاي بلا همزة .

المسألة الثانية : في المراد من قوله ( وجعلوا له من عباده جزءا ) قولان :

الأول : وهو المشهور ؛ أن المراد أنهم أثبتوا له ولدا ، وتقرير الكلام أن ولد الرجل جزء منه ، قال عليه السلام : فاطمة بضعة مني ولأن المعقول من الوالد أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ، ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك الأصل ، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه وبعض منه ، فقوله ( وجعلوا له من عباده جزءا ) معنى " جعلوا " حكموا وأثبتوا وقالوا به ، والمعنى أنهم أثبتوا له جزءا ، وذلك الجزء هو عبد من عباده .

واعلم أنه لو قال : وجعلوا لعباده منه جزءا ، أفاد ذلك أنهم أثبتوا أنه حصل جزء من أجزائه في بعض [ ص: 173 ] عباده ، وذلك هو الولد ، فكذا قوله ( وجعلوا له من عباده جزءا ) معناه : وأثبتوا له جزءا ، وذلك الجزء هو عبد من عباده ، والحاصل أنهم أثبتوا لله ولدا ، وذكروا في تقرير هذا القول وجوها أخر ، فقالوا : الجزء هو الأنثى في لغة العرب ، واحتجوا في إثبات هذه اللغة ببيتين :

فالأول قوله :


إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكاة أحيانا

وقوله :


زوجتها من بنات الأوس مجزئة     للعوسج اللدن في أبياتها غزل

وزعم الزجاج والأزهري وصاحب "الكشاف" : أن هذه اللغة فاسدة ، وأن هذه الأبيات مصنوعة .

والقول الثاني في تفسير الآية : أن المراد من قوله ( وجعلوا له من عباده جزءا ) إثبات الشركاء لله ، وذلك لأنهم لما أثبتوا الشركاء لله تعالى فقد زعموا أن كل العباد ليس لله ، بل بعضها لله ، وبعضها لغير الله ، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم ، بل جعلوا له منهم بعضا وجزءا منهم ، قالوا : والذي يدل على أن هذا القول أولى من الأول ، أنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله ، وحملنا الآية التي بعدها إلى إنكار الولد لله ، كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين .

ثم قال تعالى : ( أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين ) .

واعلم أنه تعالى رتب هذه المناظرة على أحسن الوجوه ، وذلك لأنه تعالى بين أن إثبات الولد لله محال ، وبتقدير أن يثبت الولد فجعله بنتا أيضا محال ، أما بيان أن إثبات الولد لله محال ، فلأن الولد لا بد وأن يكون جزءا من الوالد ، وما كان له جزء كان مركبا ، وكل مركب ممكن ، وأيضا ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق ، وما كان كذلك فهو عبد محدث ، فلا يكون إلها قديما أزليا .

وأما المقام الثاني : وهو أن بتقدير ثبوت الولد فإنه يمتنع كونه بنتا ، وذلك لأن الابن أفضل من البنت ، فلو قلنا إنه اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده ، لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله ، وذلك مدفوع في بديهة العقل ، يقال أصفيت فلانا بكذا ، أي آثرته به إيثارا حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه مشارك ، وهو كقوله ( أفأصفاكم ربكم بالبنين ) ثم بين نقصان البنات من وجوه :

الأول : قوله ( وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى ! وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى ، فهجر البيت الذي فيه المرأة ، فقالت :


ما لأبي حمزة لا يأتينا     يظل في البيت الذي يلينا
206 أغضبان أن لا نلد البنينا     ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا

وقوله ( ظل ) أي صار ، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة ، قال صاحب "الكشاف" : قرئ " مسود " و " مسواد " ، والتقدير : وهو مسود ، فتقع هذه الجملة موقع الخبر .

والثاني : قوله ( أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) [ ص: 174 ] وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( ينشأ ) بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله ، أي يربى ، والباقون " ينشأ " بضم الياء وسكون النون وفتح الشين ، قال صاحب "الكشاف" : وقرئ " يناشأ " ، قال : ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء المغالاة بمعنى الإغلاء .

المسألة الثانية : المراد من قوله ( أومن ينشأ في الحلية ) التنبيه على نقصانها ، وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات ، لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ، ثم بين نقصان حالها بطريق آخر ، وهو قوله ( وهو في الخصام غير مبين ) يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين ، وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها ، ويقال : قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها ، فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها ، فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليه !

المسألة الثالثة : دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء ، وأنه حرام للرجال ، لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان ، وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل ، وذلك حرام ، لقوله عليه السلام : ليس للمؤمن أن يذل نفسه وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله ، والتزين بزينة التقوى ، قال الشافعي :

تدرعت يوما للقنوع حصينة     أصون بها عرضي وأجعلها ذخرا
ولم أحذر الدهر الخئون وإنما     قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرا
فأعددت للموت الإله وعفوه     وأعددت للفقر التجلد والصبرا

ثم قال تعالى : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المراد بقوله : جعلوا ، أي حكموا به ، ثم قال : ( أشهدوا خلقهم ) وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية ، وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوة ، وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة ، فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل ، ثم إنه تعالى هددهم فقال : ( ستكتب شهادتهم ويسألون ) وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر ، وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد . قال أهل التحقيق : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه :

أولها : إثبات الولد لله تعالى .

وثانيها : أن ذلك الولد بنت .

وثالثها : الحكم على الملائكة بالأنوثة .

المسألة الثانية : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : " عند الرحمن" بالنون ، وهو اختيار أبي حاتم ، واحتج عليه بوجوه :

الأول : أنه يوافق قوله ( إن الذين عند ربك ) [الأعراف : 206] وقوله ( ومن عنده ) [الأنبياء : 19] .

والثاني : أن كل الخلق عباده ، فلا مدح لهم فيه .

والثالث : أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمن ، لا عند هؤلاء الكفار ، فكيف عرفوا كونهم إناثا ؟

وأما الباقون فقرءوا " عباد " جمع عبد ، وقيل : جمع عابد ، كقائم وقيام ، وصائم وصيام ، ونائم ونيام ، وهي قراءة ابن عباس ، واختيار أبي عبيد ، قال : لأنه تعالى رد عليهم قولهم : إنهم بنات الله ، وأخبر أنهم عبيد ، ويؤيد هذه القراءة قوله ( بل عباد مكرمون ) . [الأنبياء : 26]

[ ص: 175 ] المسألة الثالثة : قرأ نافع وحده : " آأشهدوا " بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة ، أي [أ] أحضروا خلقهم ، وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله ، والباقون : " أشهدوا" بفتح الألف ، من [أ] شهدوا ، أي أحضروا .

المسألة الرابعة : احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية ، فقال : أما قراءة " عند " بالنون ، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ، ولفظة " هم " توجب الحصر ، والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم ، فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر ، وأما من قرأ " عباد " جمع العبد ، فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين ، فقوله ( هم عباد الرحمن ) يفيد حصر العبودية فيهم ، فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالا على الفضل والشرف ، كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالا على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم ، وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية