صفحة جزء
[ ص: 227 ] ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون )

قوله تعالى : ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ) .

اعلم أنه تعالى بين أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل ، مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد ، والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم .

واعلم أن النعم على قسمين : نعم الدين ، ونعم الدنيا ، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا ، فلهذا بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين ، فقال : ( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ) والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكون مغايرا لصاحبه ، أما ( الكتاب ) فهو التوراة ، وأما ( الحكم ) ففيه وجوه : يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة ، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات ، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه ، وأما النبوة فمعلومة ، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى : ( ورزقناهم من الطيبات ) ، وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا ، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى ، ولما بين تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيبا وافرا ، قال : ( وفضلناهم على العالمين ) يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم ، فلهذا المعنى قال المفسرون : المراد : وفضلناهم عن عالمي زمانهم .

ثم قال تعالى : ( وآتيناهم بينات من الأمر ) وفيه وجوه :

الأول : أنه آتاهم بينات من الأمر ، أي أدلة على أمور الدنيا .

الثاني : قال ابن عباس : يعني بين لهم من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب ، ويكون أنصاره أهل يثرب .

الثالث : المراد ( وآتيناهم بينات ) أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم ، والمراد [ ص: 228 ] معجزات موسى عليه السلام .

ثم قال تعالى : ( فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) ، وهذا مفسر في سورة ( حم عسق ) ، والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة ، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف ، وههنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف ، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم ، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم ، ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا ، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم ، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع .

ثم قال تعالى : ( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) ، والمراد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا ، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها ، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوؤه ، وذلك كالزجر لهم ، ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والحسد أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يعدل عن تلك الطريقة ، وأن يتمسك بالحق ، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق ، فقال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر ) أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين ، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات ، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل ، قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة : ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

ثم قال تعالى : ( إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ) أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقا للعذاب ، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك ، ثم بين تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا وفي الآخرة ، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب ، وأما المتقون المهتدون فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه ، وما أبين الفرق بين الولايتين ، ولما بين الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة ، قال : ( هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون ) ، وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف ، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب ، كما جعل في سائر الآيات روحا وحياة ، وهو هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن ، ولما بين الله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم ، بين الفرق بينهما من وجه آخر فقال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، وفيه مباحث :

البحث الأول : ( أم ) كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفا على شيء آخر ، سواء كان ذلك المعطوف مذكورا أو مضمرا ، والتقدير ههنا : أفيعلم المشركون هذا ، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين ؟

البحث الثاني : الاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ، قال تعالى : ( ويعلم ما جرحتم بالنهار ) [ الأنعام : 60 ] .

البحث الثالث : قال الكلبي : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم ، وفي ثلاثة من المشركين : عتبة وشيبة والوليد بن عتبة ، قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولو كان ما [ ص: 229 ] تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة ، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا ، فأنكر الله عليهم هذا الكلام ، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب ، ومنازل السعادات .

واعلم أن لفظ ( حسب ) يستدعي مفعولين :

أحدهما : الضمير المذكور في قوله : ( أن نجعلهم ) .

والثاني : الكاف في قوله : ( كالذين آمنوا ) ، والمعنى : أحسب - هؤلاء المجترحين - أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا ؟ .

ونظيره قوله تعالى : ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) [ السجدة : 18 ] ، وقوله : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ) [ غافر : 51 ، 52 ] ، وقوله تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) [ القلم : 35 ، 36 ] ، وقوله : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) [ ص : 28 ] .

ثم قال تعالى : ( سواء محياهم ومماتهم ) ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( سواء ) بالنصب ، والباقون بالرفع ، واختيار أبي عبيد النصب ، أما وجه القراءة بالرفع فهو أن قوله : ( محياهم ومماتهم ) مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله : ( أم نجعل ) وهو الكاف في قوله : ( كالذين آمنوا ) ، ونظيره قوله : ظننت زيدا أبوه منطلق ، وأما وجه القراءة بالنصب فقال صاحب “ الكشاف “ : أجرى ( سواء ) مجرى مستويا فارتفع ( محياهم ومماتهم ) على الفاعلية وكان مفردا غير جملة ، ومن قرأ : ( ومماتهم ) بالنصب جعل ( محياهم ومماتهم ) ظرفين كمقدم الحاج ، وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، قال أبو علي : من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلا من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعل محياهم ومماتهم سواء ، قال : ويجوز أن نجعله حالا ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله : ( كالذين ) .

المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله : ( محياهم ومماتهم ) قال مجاهد عن ابن عباس : يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم ؟ كلا ، فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين ، والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين ، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه ، والكافر بالضد منه ، كما ذكره في قوله : ( وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض ) ، وعند القرب إلى الموت ، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة ) [ النحل : 32 ] ، وحال الكافر ما ذكره في قوله : ( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) [ النحل : 28 ] ، وأما في القيامة فقال تعالى : ( وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ) [ عبس : 38 41 ] ، فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين .

والوجه الثاني في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة ، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن ، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات .

والوجه الثالث في التأويل أن قوله : ( سواء محياهم ومماتهم ) مستأنف على معنى أن محيا المسيئين ومماتهم سواء ، فكذلك محيا المحسنين ومماتهم ، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه ، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال : ( ساء ما يحكمون ) ، وهو ظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية