1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
صفحة جزء
هذا مجموع استدلال المعتزلة بعمومات القرآن والأخبار . أجاب أصحابنا عنها من وجوه :

أولها : أنا لا نسلم أن صيغة " من " في معرض الشرط للعموم ، ولا نسلم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة باللام للعموم والذي يدل عليه أمور :

[ ص: 140 ] الأول : أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللفظتين ، كل من دخل داري أكرمته وبعض من دخل داري أكرمته ، ويقال أيضا : كل الناس كذا ، وبعض الناس كذا ، ولو كانت لفظة " من " للشرط تفيد الاستغراق لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريرا وإدخال لفظ البعض عليه نقضا ، وكذلك في لفظ الجمع المعرف ، فثبت أن هذه الصيغ لا تفيد العموم .

الثاني : وهو أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله ، والمراد منها تارة الاستغراق وأخرى البعض ، فإن أكثر عمومات القرآن مخصوصة ، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أنه يفيد الاستغراق أو لا يفيد .

الثالث : وهو أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها ، لأن تحصيل الحاصل محال فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا محالة ، سلمنا أنها تفيد معنى [ العموم ] ولكن إفادة قطعية أو ظنية ؟ الأول : ممنوع وباطل قطعا لأن من المعلوم بالضرورة أن الناس كثيرا ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل والجميع على سبيل المبالغة كقوله تعالى : ( وأوتيت من كل شيء ) [ النمل : 23 ] فإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية ، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية لم يجز التمسك فيها بهذه العمومات ، سلمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية ولكن لا بد من اشتراط أن لا يوجد شيء من المخصصات ، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام ، فلم قلتم : إنه لم يوجد شيء من المخصصات ؟ أقصى ما في الباب أن يقال : بحثنا فلم نجد شيئا من المخصصات لكنك تعلم أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود . وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ لمعنى الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات وهذا الشرط غير معلوم كانت الدلالة موقوفة على شرط غير معلوم ، فوجب أن لا تحصل الدلالة ، ومما يؤكد هذا المقام قوله تعالى : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) [ البقرة : 6 ] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون ، ثم إنا شاهدنا قوما منهم قد آمنوا فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين :

إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى إلا أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعلمون لأجلها أن مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص . وأما ما كان هناك فلم يجز مثله ههنا ؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص ، لكن آيات العفو مخصصة لها والرجحان معنا لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام ، والخاص مقدم على العام لا محالة ، سلمنا أنه لم يوجد المخصص ولكن عمومات الوعيد معارضة بعمومات الوعد ، ولا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه :

الأول : أن الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد .

والثاني : أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه فكان ترجيح عمومات الوعد أولى .

الثالث : وهو أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد ، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى ، سلمنا أنه لم يوجد المعارض ، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكفار ، فلا تكون قاطعة في العمومات ، فإن قيل العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، قلنا : هب أنه كذلك ، ولكن لما رأينا كثيرا من الألفاظ العامة [ ص: 141 ] وردت في الأسباب الخاصة ، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أن إفادتها للعموم لا يكون قويا والله أعلم .

أما الذين قطعوا بنفي العقاب عن أهل الكبائر فقد احتجوا بوجوه :

الأول : قوله تعالى : ( إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) [ النحل : 27 ] وقوله تعالى : ( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) [ طه : 48 ] دلت هذه الآية على أن ماهية الخزي والسوء والعذاب مختصة بالكافر ، فوجب أن لا يحصل فرد من أفراد هذه الماهية لأحد سوى الكافرين .

الثاني : قوله تعالى : ( قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ) [ الزمر : 53 ] ، حكم تعالى بأنه يغفر كل الذنوب ولم يعتبر التوبة ولا غيرها ، وهذا يفيد القطع بغفران كل الذنوب .

الثالث : قوله تعالى : ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) [ الرعد : 6 ] وكلمة " على " تفيد الحال كقولك : رأيت الملك على أكله ، أي رأيته حال اشتغاله بالأكل ، فكذا ههنا وجب أن يغفر لهم الله حال اشتغالهم بالظلم ، وحال الاشتغال بالظلم يستحيل حصول التوبة منهم ، فعلمنا أنه يحصل الغفران بدون التوبة ومقتضى هذه الآية أن يغفر للكافر لقوله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13 ] إلا أنه ترك العمل به هناك فبقي معمولا به في الباقي . والفرق أن الكفر أعظم حالا من المعصية .

الرابع : قوله تعالى : ( فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ) [ الليل : 14 ] ، وكل نار فإنها متلظية لا محالة ، فكأنه تعالى قال إن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي هو المكذب المتولي .

الخامس : قوله تعالى : ( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ) [ الملك : 8 ، 9 ] ، دلت الآية على أن جميع أهل النار مكذب . لا يقال هذه الآية خاصة في الكفار ، ألا ترى أنه يقول قبله : ( وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ ) [ الملك : 6 - 8 ] .

وهذا يدل على أنها مخصوصة في بعض الكفار وهم الذين قالوا : ( بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ) وليس هذا من قول جميع الكفار لأنا نقول : دلالة ما قبل هذه الآية على الكفار لا تمنع من عموم ما بعدها .

أما قوله : إن هذا ليس من قول الكفار قلنا : لا نسلم ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون : ما نزل الله من شيء على محمد ، وإذا كان كذلك فقد صدق عليهم أنهم كانوا يقولون ما نزل الله من شيء .

السادس : قوله تعالى : ( وهل نجازي إلا الكفور ) [ سبأ : 17 ] وهذا بناء المبالغة فوجب أن يختص بالكفر الأصلي .

السابع : أنه تعالى بعدما أخبر أن الناس صنفان : بيض الوجوه وسودهم قال : ( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب ) [ آل عمران : 106 ] فذكر أنهم الكفار .

والثامن : أنه تعالى بعدما جعل الناس ثلاثة أصناف ، السابقون وأصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، بين أن السابقين وأصحاب الميمنة في الجنة وأصحاب المشأمة في النار ، ثم بين أنهم كفار بقوله : ( وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ) [ الواقعة : 47 ] .

التاسع : أن صاحب الكبيرة لا يخزى وكل من أدخل النار فإنه يخزى فإذن صاحب الكبيرة لا يدخل النار وإنما قلنا : إن صاحب الكبيرة لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى ، وإنما قلنا : إنه مؤمن لما سبق بيانه في تفسير قوله : ( الذين يؤمنون بالغيب ) [ البقرة : 3 ] من أن صاحب الكبيرة مؤمن ، وإنما قلنا : إن المؤمن لا يخزى لوجوه :

[ ص: 142 ]

أحدها : قوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) [ التحريم : 8 ] .

وثانيها : قوله : ( إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) [ النحل : 27 ] .

وثالثها : قوله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) [ آل عمران : 191 ] إلى أن حكى عنهم أنهم قالوا : ( ولا تخزنا يوم القيامة ) [ آل عمران : 194 ] ، ثم إنه تعالى قال : ( فاستجاب لهم ربهم ) [ آل عمران : 195 ] ومعلوم أن الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض يدخل فيه العاصي والزاني وشارب الخمر ، فلما حكى الله عنهم أنهم قالوا : ( ولا تخزنا يوم القيامة ) ثم بين أنه تعالى استجاب لهم في ذلك ثبت أنه تعالى لا يخزيهم ، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى لا يخزي عصاة أهل القبلة ، وإنما قلنا : إن كل من أدخل النار فقد أخزي لقوله تعالى : ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) [ آل عمران : 192 ] ، فثبت بمجموع هاتين المقدمتين أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار .

العاشر : العمومات الكثيرة الواردة في الوعد نحو قوله : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) [ البقرة : 4 - 5 ] ، فحكم بالفلاح على كل من آمن ، وقال : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) [ البقرة : 62 ] فقوله : ( وعمل صالحا ) [ البقرة : 62 ] نكرة في الإثبات فيكفي فيه الإثبات بعمل واحد وقال : ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ) [ النساء : 124 ] وإنها كثيرة جدا ، ولنا فيه رسالة مفردة من أرادها فليطالع تلك الرسالة .

والجواب عن هذه الوجوه : أنها معارضة بعمومات الوعيد ، والكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية