1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
صفحة جزء
أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض وتوقفوا في البعض فقد احتجوا من القرآن بآيات :

الحجة الأولى : الآيات الدالة على كون الله تعالى عفوا غفورا كقوله تعالى : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ) [ الشورى : 25 ] وقوله تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [ الشورى : 30 ] وقوله : ( ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ) [ الشورى : 32 ] إلى قوله : ( أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ) [ الشورى : 34 ] وأيضا أجمعت الأمة على أن الله يعفو عن عباده وأجمعوا على أن من جملة أسمائه العفو فنقول : العفو إما أن يكون عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه أو عمن لا يحسن عقابه ، وهذا القسم الثاني باطل ، لأن عقاب من لا يحسن عقابه قبيح ، ومن ترك مثل هذا الفعل لا يقال : إنه عفا ، ألا ترى أن الإنسان إذا لم يظلم أحدا لا يقال : أنه عفا عنه ، إنما يقال له : عفا إذا كان له أن يعذبه فتركه ولهذا قال : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ البقرة : 237 ] ولأنه تعالى قال : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ) [ الشورى : 25 ] ، فلو كان العفو عبارة عن إسقاط العقاب عن التائب لكان ذلك تكريرا من غير فائدة ، فعلمنا أن العفو عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وذلك هو مذهبنا .

الحجة الثانية : الآيات الدالة على كونه تعالى غافرا وغفورا وغفارا ، قال تعالى : ( غافر الذنب وقابل التوب ) [ غافر : 3 ] وقال : ( وربك الغفور ذو الرحمة ) [ الكهف : 58 ] وقال : ( وإني لغفار لمن تاب ) [ طه : 82 ] وقال : ( غفرانك ربنا وإليك المصير ) [ البقرة : 285 ] . والمغفرة ليست عبارة عن إسقاط العقاب عمن لا يحسن [ ص: 143 ] عقابه فوجب أن يكون ذلك عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه ، وإنما قلنا : إن الوجه الأول باطل لأنه تعالى يذكر صفة المغفرة في معرض الامتنان على العباد ولو حملناه على الأول لم يبق هذا المعنى لأن ترك القبيح لا يكون منة على العبد بل كأنه أحسن إلى نفسه فإنه لو فعله لاستحق الذم واللوم والخروج عن حد الإلهية فهو بترك القبائح لا يستحق الثناء من العبد ولما بطل ذلك تعين حمله على الوجه الثاني وهو المطلوب . فإن قيل : لم لا يجوز حمل العفو والمغفرة على تأخير العقاب من الدنيا إلى الآخرة ، والدليل على أن العفو مستعمل في تأخير العذاب عن الدنيا قوله تعالى في قصة اليهود : ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك ) [ البقرة : 52 ] والمراد ليس إسقاط العقاب ، بل تأخيره إلى الآخرة وكذلك قوله تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [ الشورى : 30 ] أي ما يعجل الله تعالى من مصائب عقابه إما على جهة المحنة أو على جهة العقوبة المعجلة فبذنوبكم ولا يعجل المحنة والعقاب على كثير منها ، وكذا قوله تعالى : ( ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ) [ الشورى : 32 ] إلى قوله : ( أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ) [ الشورى : 34 ] أي لو شاء إهلاكهن لأهلكهن ولا يهلك على كثير من الذنوب .

والجواب : العفو أصله من عفا أثره أي أزاله ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المسمى من العفو الإزالة لهذا قال تعالى : ( فمن عفي له من أخيه شيء ) [ البقرة : 178 ] وليس المراد منه التأخير ، بل الإزالة وكذا قوله : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) [ البقرة : 237 ] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم ، بل الإسقاط المطلق ، ومما يدل على أن العفو لا يتناول التأخير أن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال : إنه عفا عنه ولو أسقطه يقال : إنه عفا عنه فثبت أن العفو لا يمكن تفسيره بالتأخير .

الحجة الثالثة : الآيات الدالة على كونه تعالى رحمانا رحيما ، والاستدلال بها أن رحمته سبحانه إما أن تظهر بالنسبة إلى المطيعين الذين يستحقون الثواب أو إلى العصاة الذين يستحقون العقاب ، والأول باطل لأن رحمته في حقهم إما أن تحصل لأنه تعالى أعطاهم الثواب الذي هو حقهم أو لأنه تفضل عليهم بما هو أزيد من حقهم . والأول باطل لأن أداء الواجب لا يسمى رحمة ، ألا ترى أن من كان له على إنسان مائة دينار فأخذها منه قهرا وتكليفا لا يقال في المعطي إنه أعطى الآخذ ذلك القدر رحمة ، والثاني باطل لأن المكلف صار بما أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستثنى عن ذلك التفضل فتلك الزيادة تسمى زيادة في الإنعام ولا تسمى البتة رحمة ، ألا ترى أن السلطان المعظم إذا كان في خدمته أمير له ثروة عظيمة ومملكة كاملة ، ثم إن السلطان ضم إلى ماله من الملك مملكة أخرى ، فإنه لا يقال : إن السلطان رحمه بل يقال : زاد في الإنعام عليه فكذا ههنا .

أما القسم الثاني : وهو أن رحمته إنما تظهر بالنسبة إلى من يستحق العقاب ، فإما أن تكون رحمته لأنه تعالى ترك العذاب الزائد على العذاب المستحق ، وهذا باطل لأن ترك ذلك واجب والواجب لا يسمى رحمة ولأنه يلزم أن يكون كل كافر وظالم رحيما علينا لأجل أنه ما ظلمنا ، فبقي أنه إنما يكون رحيما لأنه ترك العقاب المستحق وذلك لا يتحقق في حق صاحب الصغيرة ولا في حق صاحب الكبيرة بعد التوبة ، لأن ترك عقابهم واجب ، فدل على أن رحمته إنما حصلت لأنه ترك عقاب صاحب الكبيرة قبل التوبة ، فإن قيل : لم لا يجوز أن تكون رحمته لأجل أن الخلق والتكليف والرزق كلها تفضل ، ولأنه تعالى يخفف عن عقاب صاحب الكبيرة ؟ قلنا : أما الأول فإنه يفيد كونه رحيما في الدنيا فأين رحمته في الآخرة مع أن الأمة مجتمعة على أن رحمته في الآخرة أعظم من رحمته في الدنيا . وأما الثاني : فلأن عندكم التخفيف عن العقاب غير جائز هكذا [ ص: 144 ] قول المعتزلة الوعيدية ، إذا ثبت حصول التخفيف بمقتضى هذه الآية ثبت جواز العفو لأن كل من قال بأحدهما قال بالآخر .

الحجة الرابعة : قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] ، فنقول : " لمن يشاء " لا يجوز أن يتناول صاحب الصغيرة ولا صاحب الكبيرة بعد التوبة ، فوجب أن يكون المراد منه صاحب الكبيرة قبل التوبة ، وإنما قلنا : إنه لا يجوز حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة لوجوه :

أحدها : أن قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك ) معناه أنه لا يغفره تفضلا لا أنه لا يغفره استحقاقا دل عليه العقل والسمع وإذا كان كذلك لزم أن يكون معنى قوله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) أي ويتفضل بغفران ما دون ذلك الشرك حتى يكون النفي والإثبات متوجهين إلى شيء واحد ، ألا ترى أنه لو قال : فلان لا يتفضل بمائة دينار ويعطي ما دونها لمن استحق لم يكن كلاما منتظما ، ولما كان غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة مستحقا امتنع كونهما مرادين بالآية .

وثانيها : أنه لو كان قوله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) أنه يغفر المستحقين كالتائبين وأصحاب الصغائر لم يبق لتمييز الشرك مما دون الشرك معنى لأنه تعالى كما يغفر ما دون الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فكذلك يغفر الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق ، فلا يبقى للفصل والتمييز فائدة ، وثالثها : أن غفران التائبين وأصحاب الصغائر واجب والواجب غير معلق على المشيئة ، لأن المعلق على المشيئة هو الذي إن شاء فاعله فعله يفعله وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذي لا بد من فعله شاء أو أبى ، والمغفرة المذكورة في الآية معلقة على المشيئة فلا يجوز أن تكون المغفرة المذكورة في الآية مغفرة التائبين وأصحاب الصغائر .

واعلم أن هذه الوجوه بأسرها مبينة على قول المعتزلة من أنه يجب غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة ، وأما نحن فلا نقول ذلك .

ورابعها : أن قوله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) يفيد القطع بأنه يغفر كل ما سوى الشرك وذلك يندرج فيه الصغيرة والكبيرة بعد التوبة وقبل التوبة إلا أن غفران كل هذه الثلاثة يحتمل قسمين ، لأنه يحتمل أن يغفر كلها لكل أحد وأن يغفر كلها للبعض دون البعض فقوله : ( ويغفر ما دون ذلك ) يدل على أنه تعالى يغفر كل هذه الثلاثة ، ثم قوله : ( لمن يشاء ) يدل على أنه تعالى يغفر كل تلك الأشياء لا للكل بل للبعض . وهذا الوجه هو اللائق بأصولنا ، فإن قيل : لا نسلم أن المغفرة تدل على أنه تعالى لا يعذب العصاة في الآخرة ، بيانه أن المغفرة إسقاط العقاب وإسقاط العقاب أعم من إسقاط العقاب دائما أو لا دائما واللفظ الموضوع بإزاء القدر المشترك لا إشعار له بكل واحد من ذينك القيدين ، فإذن لفظ المغفرة لا دلالة فيه على الإسقاط الدائم . إذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك عن الدنيا ويؤخر عقوبة ما دون الشرك عن الدنيا لمن يشاء ، لا يقال : كيف يصح هذا ونحن لا نرى مزيدا للكفار في عقاب الدنيا على المؤمنين لأنا نقول : تقدير الآية أن الله لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء ويؤخر عقاب ما دون الشرك في الدنيا لمن يشاء فحصل بذلك تخويف كلا الفريقين بتعجيل العقاب للكفار والفساق لتجويز كل واحد من هؤلاء أن يعجل عقابه ، وإن كان لا يفعل ذلك بكثير منهم . سلمنا أن الغفران عبارة عن الإسقاط على سبيل الدوام فلم قلتم إنه لا يمكن حمله على مغفرة التائب ومغفرة صاحب الصغيرة ؟ أما الوجوه الثلاثة الأولى : فهي مبنية على أصول لا يقولون بها وهي وجوب مغفرة صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة .

وأما الوجه الرابع : فلا نسلم أن قوله : ( ما دون ذلك ) يفيد العموم ، والدليل عليه أنه يصح إدخال لفظ [ ص: 145 ] " كل " و " بعض " على البدل عليه مثل أن يقال : ويغفر كل ما دون ذلك . ويغفر بعض ما دون ذلك ولو كان قوله : ( ما دون ذلك ) يفيد العموم لما صح ذلك ، سلمنا أنه للعموم ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة ، وذلك لأن الآيات الواردة في الوعيد كل واحد منها مختص بنوع واحد من الكبائر مثل القتل والزنا ، وهذه الآية متناولة لجميع المعاصي والخاص مقدم على العام ، فآيات الوعيد يجب أن تكون مقدمة على هذه الآية .

والجواب عن الأول : أنا إذا حملنا المغفرة على تأخير العقاب وجب بحكم الآية أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر من عقاب المؤمنين وإلا لم يكن في هذا التفصيل فائدة ، ومعلوم أنه ليس كذلك بدليل قوله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ) [ الزخرف : 33 ] الآية . قوله : لم قلتم إن قوله : ( ما دون ذلك ) يفيد العموم ؟ قلنا : لأن قوله : " ما " تفيد الإشارة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك ، وهذه الماهية ماهية واحدة ، وقد حكم قطعا بأنه يغفرها ، ففي كل صورة تتحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران ، فثبت أنه للعموم ولأنه يصح استثناء أي معصية كانت منها وعند الوعيدية صحة الاستثناء تدل على العموم ، أما قوله : آيات الوعيد أخص من هذه الآية ، قلنا : لكن هذه الآية أخص منها لأنها تفيد العفو عن البعض دون البعض وما ذكرتموه يفيد الوعيد للكل ، ولأن ترجيح آيات العفو أولى لكثرة ما جاء في القرآن والأخبار من الترغيب في العفو .

الحجة الخامسة : أن نتمسك بعمومات الوعد وهي كثيرة في القرآن ، ثم نقول : لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح أو من التوفيق ، والترجيح معناه من وجوه :

أحدها : أن عمومات الوعد أكثر ، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع ، وقد دللنا على صحته في أصول الفقه .

وثانيها : أن قوله تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) [ هود : 114 ] يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت في أصول الفقه ، فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ترك العمل به في حق الحسنات الصادرة من الكفار ، فإنها لا تذهب سيئاتهم فيبقى معمولا به في الباقي .

وثالثها : قوله تعالى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) [ الأنعام : 160 ] ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال : ( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ) [ البقرة : 261 ] ثم زاد عليه فقال : ( والله يضاعف لمن يشاء ) [ البقرة : 261 ] وأما في جانب السيئة فقال : ( ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) [ الأنعام : 160 ] ، وهذا في غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجح عند الله تعالى على جانب السيئة .

ورابعها : أنه تعالى قال في آية الوعد في سورة النساء : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا ) [ النساء : 122 ] فقوله : ( وعد الله حقا ) إنما ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقا .

أما قوله تعالى : ( ما يبدل القول لدي ) [ ق : 29 ] الآية ، يتناول الوعد والوعيد .

وخامسها : قوله تعالى : ( ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ) [ النساء : 110 ، 111 ] والاستغفار طلب المغفرة وهو غير التوبة فصرح ههنا بأنه سواء تاب أو لم يتب فإذا استغفر غفر الله له ، ولم يقل ومن يكسب إثما فإنه يجد الله معذبا معاقبا ، بل قال : ( فإنما يكسبه على نفسه ) [ النساء : 111 ] فدل هذا على أن جانب الحسنة راجح ونظيره قوله تعالى : ( إن أحسنتم أحسنتم ) ? [ ص: 146 ] ( لأنفسكم وإن أسأتم فلها ) [ الإسراء : 7 ] ولم يقل : وإن أسأتم أسأتم لها فكأنه تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين وستر عليه إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة ، وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح .

وسادسها : أنا قد دللنا على أن قوله تعالى : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] لا يتناول إلا العفو عن صاحب الكبيرة ثم إنه تعالى أعاد هذه الآية في السورة الواحدة مرتين والإعادة لا تحسن إلا للتأكيد ، ولم يذكر شيئا من آيات الوعيد على وجه الإعادة بلفظ واحد ، لا في سورة واحدة ولا في سورتين ، فدل على أن عناية الله بجانب الوعد على الحسنات والعفو عن السيئات أتم .

وسابعها : أن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضت فلا بد من صرف التأويل إلى أحد الجانبين ، وصرف التأويل إلى الوعيد أحسن من صرفه إلى الوعد لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف وإهمال الوعد مستقبح في العرف ، فكان صرف التأويل إلى الوعيد أولى من صرفه إلى الوعد .

وثامنها : أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافرا غفورا غفارا وأن له الغفران والمغفرة ، وأنه تعالى رحيم كريم ، وأن له العفو والإحسان والفضل والإفضال ، والأخبار الدالة على هذه الأشياء قد بلغت مبلغ التواتر وكل ذلك مما يؤكد جانب الوعد وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو ، وكل ذلك يوجب رجحان جانب الوعد على جانب الوعيد .

وتاسعها : أن هذا الإنسان أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر ، بل أتى بالشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية ، والسيد الذي له عبد ثم أتى عبده بأعظم الطاعات وأتى بمعصية متوسطة فلو رجح المولى تلك المعصية المتوسطة على الطاعة العظيمة لعد ذلك السيد لئيما مؤذيا فكذا ههنا ، فلما لم يجز ذلك على الله ثبت أن الرجحان لجانب الوعد .

وعاشرها : قال يحيى بن معاذ الرازي : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة ! إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي وإلا فالكفر أعظم من الإيمان ! فإن يكن كذلك فلا أقل من رجاء العفو . وهو كلام حسن .

الحادي عشر : أنا قد بينا بالدليل أن قوله : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] لا يمكن حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة ، فلو لم تحمله على الكبيرة قبل التوبة لزم تعطيل الآية ، أما لو خصصنا عمومات الوعيد بمن يستحلها لم يلزم منه إلا تخصيص العموم ، ومعلوم أن التخصيص أهون من التعطيل ، قالت المعتزلة : ترجيح جانب الوعيد أولى من وجوه :

أولها : هو أن الأمة اتفقت على أن الفاسق يلعن ويحد على سبيل التنكيل والعذاب وأنه أهل الخزي وذلك يدل على أنه مستحق للعقاب وإذا كان مستحقا للعقاب استحال أن يبقى في تلك الحالة مستحقا للثواب ، وإذا ثبت هذا كان جانب الوعيد راجحا على جانب الوعد . أما بيان أنه يلعن ، فالقرآن والإجماع ، أما القرآن فقوله تعالى في قاتل المؤمن : ( وغضب الله عليه ولعنه ) [ النساء : 93 ] وكذا قوله : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود : 18 ] وأما الإجماع فظاهر ، وأما أنه يحد على سبيل التنكيل فلقوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله ) [ المائدة : 38 ] وأما أنه يحد على سبيل العذاب فلقوله تعالى في الزاني : ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) [ النور : 2 ] ، وأما أنهم أهل الخزي فلقوله تعالى في قطاع الطريق : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] إلى قوله تعالى : ( ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) [ المائدة : 33 ] . وإذا ثبت كون الفاسق موصوفا بهذه الصفات ثبت أنه مستحق للعذاب والذم ، ومن كان مستحقا لهما دائما ومتى استحقهما دائما امتنع أن يبقى مستحقا للثواب ، لأن [ ص: 147 ] الثواب والعقاب متنافيان ، فالجمع بين استحقاقهما محال ، وإذا لم يبق مستحقا للثواب ثبت أن جانب الوعيد راجح على جانب الوعد .

وثانيها : أن آيات الوعد عامة وآيات الوعيد خاصة والخاص مقدم على العام .

وثالثها : أن الناس جبلوا على الفساد والظلم فكانت الحاجة إلى الزجر أشد ، فكان جانب الوعيد أولى .

قلنا : الجواب عن الأول من وجوه :

الأول : كما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويعذبون في الدنيا بسبب معاصيهم كذلك أيضا وجدت آيات دالة على أنهم يعظمون ويكرمون في الدنيا بسبب إيمانهم . قال الله تعالى : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) [ الأنعام : 54 ] ، فليس ترجيح آيات الوعيد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون ويعذبون في الدنيا بأولى من ترجيح آيات الوعد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون بسبب إيمانهم في الدنيا .

الثاني : فكما أن آيات الوعد معارضة لآيات الوعيد في الآخرة فهي معارضة لآيات الوعيد والنكال في الدنيا ، فلم كان ترجيح آيات وعيد الدنيا على آيات وعيد الآخرة أولى من العكس ؟ .

الثالث : أنا أجمعنا على أن السارق وإن تاب إلا أنه تقطع يده لا نكالا ولكن امتحانا ، فثبت أن قوله : (جزاء بما كسبا نكالا ) [ المائدة : 38 ] مشروط بعدم التوبة ، فلم لا يجوز أيضا أن يكون مشروطا بعدم العفو ؟ .

والرابع : أن الجزاء ما يجزي ويكفي وإذا كان كافيا وجب أن لا يجوز العقاب في الآخرة وإلا قدح ذلك في كونه مجزيا وكافيا ، فثبت أن هذا ينافي العذاب في الآخرة ، وإذا ثبت فساد قولهم في ترجيح جانب الوعيد فنقول : الآيتان الدالتان على الوعد والوعيد موجودتان فلا بد من التوفيق بينهما ، فأما أن يقال : العبد يصل إليه الثواب ثم ينقل إلى دار العقاب وهو قول باطل بإجماع الأمة ، أو يقال : العبد يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب .

أما الترجيح الثاني فهو ضعيف لأن قوله : ( ويغفر ما دون ذلك ) [ النساء : 48 ] لا يتناول الكفر وقوله : ( ومن يعص الله ورسوله ) [ النساء : 14 ] يتناول الكل فكان قولنا هو الخاص والله أعلم .

الحجة السادسة : أنا قد دللنا على أن تأثير شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في إسقاط العقاب وذلك يدل على مذهبنا في هذه المسألة .

الحجة السابعة : قوله تعالى : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) [ الزمر : 53 ] وهو نص في المسألة . فإن قيل : هذه الآية إن دلت فإما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة ، وأنتم لا تقولون بهذا المذهب ، فما تدل الآية عليه لا تقولون به وما تقولون به لا تدل الآية عليه ؟ سلمنا ذلك ، لكن المراد بها أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة ، وحمل الآية على هذا المحمل أولى لوجهين :

أحدهما : أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب من غير تخصيص .

الثاني : أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى : ( وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ) [ الزمر : 54 ] والإنابة هي التوبة . فدل على أن التوبة شرط فيه .

والجواب عن الأول : أن قوله : ( يغفر الذنوب جميعا ) وعد منه بأنه تعالى سيسقطها في المستقبل ، ونحن نقطع بأنه سيفعل في المستقبل ذلك ، فإنا نقطع بأنه تعالى سيخرج المؤمنين من النار لا محالة ، فيكون هذا قطعا بالغفران لا محالة ، وبهذا ثبت أنه لا حاجة في إجراء الآية على ظاهرها على قيد التوبة ، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق . ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول : إن المعتزلة فسروا كون الخطيئة محيطة بكونها كبيرة محبطة لثواب فاعلها ، والاعتراض عليه من وجوه :

[ ص: 148 ]

الأول : أنه كما أن من شرط كون السيئة محيطة بالإنسان كونها كبيرة فكذلك شرط هذه الإحاطة عدم العفو ، لأنه لو تحقق العفو لما تحققت إحاطة السيئة بالإنسان ، فإذن لا يثبت كون السيئة محيطة بالإنسان إلا إذا ثبت عدم العفو ، وهذا أول المسألة ويتوقف الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب وهو باطل .

الثاني : أنا لا نفسر إحاطة الخطيئة بكونها كبيرة ، بل نفسرها بأن يكون ظاهره وباطنه موصوفا بالمعصية ، وذلك إنما يتحقق في حق الكافر الذي يكون عاصيا لله بقلبه ولسانه وجوارحه ، فأما المسلم الذي يكون مطيعا لله بقلبه ولسانه ويكون عاصيا لله تعالى ببعض أعضائه دون البعض فههنا لا تتحقق إحاطة الخطيئة بالعبد ، ولا شك أن تفسير الإحاطة بما ذكرناه أولى ، لأن الجسم إذا مس بعض أجزاء جسم آخر دون بعض لا يقال إنه محيط به ، وعند هذا يظهر أنه لا تتحقق إحاطة الخطيئة بالعبد إلا إذا كان كافرا . إذا ثبت هذا فنقول قوله : ( فأولئك أصحاب النار ) يقتضي أن أصحاب النار ليسوا إلا هم وذلك يقتضي أن لا يكون صاحب الكبيرة من أهل النار .

الثالث : أن قوله تعالى : ( فأولئك أصحاب النار ) يقتضي كونهم في النار في الحال وذلك باطل ، فوجب حمله على أنهم يستحقون النار . ونحن نقول بموجبه : لكن لا نزاع في أنه تعالى هل يعفو عن هذا الحق وهذا أول المسألة ، ولنختم الكلام في هذه الآية بقاعدة فقهية : وهي أن الشرط ههنا أمران :

أحدهما : اكتساب السيئة .

والثاني : إحاطة تلك السيئة بالعبد ، والجزاء المعلق على وجود الشرطين لا يوجد عند حصول أحدهما . وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو إعتاق أنه لا يحنث بوجود أحدهما والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية