[ ص: 58 ]   : ( 
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم   ) . 
ثم قال تعالى : ( 
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم   ) . 
إشارة إلى أهل الكتاب الذي تبين لهم الحق في التوراة بنعت 
محمد  صلى الله عليه وسلم وبعثه وارتدوا ، أو إلى كل من ظهرت له الدلائل وسمعها ولم يؤمن ، وهم جماعة منعهم حب الرياسة عن اتباع 
محمد  عليه السلام وكانوا يعلمون أنه الحق : ( 
الشيطان سول لهم   ) سهل لهم ( 
وأملى لهم   ) يعني قالوا : نعيش أياما ثم نؤمن به ، وقرئ : ( 
وأملى لهم   ) فإن قيل : الإملاء والإمهال وحد الآجال لا يكون إلا من الله ، فكيف يصح قراءة من قرأ : ( 
وأملى لهم   ) فإن المملي حينئذ يكون هو الشيطان نقول : الجواب عنه من وجهين أحدهما : جاز أن يكون المراد : ( 
وأملى لهم   ) الله فيقف على : ( 
سول لهم   ) . 
وثانيها : هو أن المسول أيضا ليس هو الشيطان ، وإنما أسند إليه من حيث إن الله قدر على يده ولسانه ذلك ، فذلك الشيطان يمليهم ويقول لهم في آجالكم فسحة فتمتعوا برياستكم ثم في آخر الأمر تؤمنون ، وقرئ "وأملي لهم" بفتح الياء وضم الهمزة على البناء للمفعول . 
ثم قال تعالى : ( 
ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم   ) . 
قال بعض المفسرين : ذلك إشارة إلى الإملاء ، أي ذلك الإملاء بسبب أنهم ( 
قالوا للذين كرهوا   ) وهو اختيار الواحدي ، وقال بعضهم : ( ذلك ) إشارة إلى التسويل ، ويحتمل أن يقال : ذلك الارتداد بسبب أنهم قالوا : ( 
سنطيعكم   ) وذلك لأنا نبين أن قوله : ( 
سنطيعكم في بعض الأمر   ) هو أنهم قالوا : نوافقكم على أن 
محمدا  ليس بمرسل ، وإنما هو كاذب ، ولكن لا نوافقكم في إنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ، 
ومن لم يؤمن بمحمد  صلى الله عليه وسلم فهو كافر ، وإن آمن بغيره . لا بل من لم يؤمن 
بمحمد  صلى الله عليه وسلم ، لا يؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر ، لأن الله كما أخبر عن الحشر وهو جائز ، أخبر عن نبوة 
محمد  عليه الصلاة والسلام ، وهي جائزة ، فإذا لم يصدق الله في شيء لا ينفي الكذب بقول الله في غيره ، فلا يكون مصدقا موقنا بالحشر ، ولا برسالة أحد من الأنبياء؛ لأن طريق معرفتهم واحد . 
والمراد من الذين : ( 
كرهوا ما نزل الله   ) هم المشركون والمنافقون ، وقيل : المراد 
اليهود  ، فإن 
أهل مكة   قالوا لهم : نوافقكم في إخراج 
محمد  وقتله وقتال أصحابه ، والأول أصح؛ لأن قوله : ( 
كرهوا ما نزل الله   ) لو كان مسندا إلى أهل الكتاب لكان مخصوصا ببعض ما أنزل الله ، وإن قلنا بأنه مسند إلى المشركين يكون عاما ، لأنهم كرهوا ما نزل الله وكذبوا الرسل بأسرهم ، وأنكروا الرسالة رأسا ، وقوله : ( 
سنطيعكم في بعض الأمر   ) يعني فيما يتعلق 
بمحمد  من الإيمان به فلا نؤمن والتكذيب به فنكذبه كما تكذبونه ، والقتال معه ، وأما الإشراك بالله ، واتخاذ الأنداد له من الأصنام ، وإنكار الحشر والنبوة فلا . 
وقوله : ( 
والله يعلم إسرارهم   ) قال أكثرهم : المراد منه هو أنهم قالوا ذلك سرا ، فأفشاه الله وأظهره لنبيه عليه الصلاة والسلام ، والأظهر أن يقال : ( 
والله يعلم إسرارهم   ) وهو ما في قلوبهم من العلم بصدق 
محمد  عليه   
[ ص: 59 ] الصلاة والسلام ، فإنهم كانوا مكابرين معاندين ، وكانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وقرئ : " إسرارهم " بكسر الهمزة على المصدر ، وما ذكرنا من المعنى ظاهر على هذه القراءة ، فإنهم كانوا يسرون نبوة 
محمد  عليه الصلاة والسلام ، وعلى قولنا المراد من الذين ارتدوا المنافقون ، فكانوا يقولون للمجاهدين من الكفار : ( 
سنطيعكم في بعض الأمر   ) وكانوا يسرون أنهم إن غلبوا انقلبوا ، كما قال الله تعالى : ( 
ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم   ) وقال تعالى : ( 
فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد   ) [الأحزاب : 19] .