صفحة جزء
( إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) .

ثم قال تعالى : ( إن المتقين في جنات وعيون ) بعد بيان حال المغترين المجرمين بين حال المحق المتقي ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قد ذكرنا أن المتقي له مقامات أدناها أن يتقي الشرك ، وأعلاها أن يتقي ما سوى الله ، وأدنى درجات المتقي الجنة ، فما من مكلف اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة فيرزق نعيمها .

المسألة الثانية : الجنة تارة وحدها كما قال تعالى : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) [ محمد : 15 ] وأخرى جمعها كما في هذا المقام قال : ( إن المتقين في جنات ) وتارة ثناها فقال تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [الرحمن : 46 ] فما الحكمة فيه ؟ نقول : أما الجنة عند التوحيد فلأنها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما حكمة الجمع فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إلى جنانها جنات لا يحصرها عدد ، وأما التثنية فسنذكرها في سورة الرحمن غير أنا نقول ههنا الله تعالى عند الوعد وحد الجنة ، وكذلك عند الشراء حيث قال : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) [ التوبة : 111 ] وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة , والخلاف ما لو وعد بجنات ، ثم كان يقول إنه في جنة لأنه دون الموعود .

الثالثة : قوله تعالى : ( وعيون ) يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء أو غير ذلك من المائعات ، نقول معناه في خلال العيون ، وذلك بين الأنهار بدليل أن قوله تعالى : ( في جنات ) ليس معناه إلا بين جنات وفي خلالها لأن الجنة هي الأشجار ، وإنما يكون بينها ، كذلك القول في العيون , والتنكير مع أنها معرفة للتعظيم يقال فلان رجل أي عظيم في الرجولية .

وقوله تعالى : ( آخذين ما آتاهم ربهم ) فيه مسائل ولطائف ، أما المسائل :

فالأولى منها : ما معنى آخذين ؟ نقول فيه وجهان :

أحدهما : قابضين ما آتاهم شيئا فشيئا ولا يستوفونه بكماله لامتناع استيفاء ما لا نهاية له .

ثانيها : آخذين قابلين قبول راض كما قال تعالى : ( ويأخذ الصدقات ) [ التوبة : 104 ] أي يقبلها ، وهذا ذكره الزمخشري ( وفيه وجه ثالث ) وهو أن قوله : ( في جنات ) يدل على السكنى فحسب وقوله : ( آخذين ) يدل على التملك ولذا يقال أخذ بلاد كذا وقلعة كذا إذا دخلها متملكا لها ، وكذلك يقال لمن اشترى دارا أو بستانا أخذه بثمن قليل أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبض حسا ولا قبول برضا ، وحينئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو ضعف يسترد منه ذلك ، بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله تعالى وقوله : ( آتاهم ) يكون لبيان أن أخذهم ذلك لم يكن عنوة وفتوحا ، وإنما كان [ ص: 173 ] بإعطاء الله تعالى ، وعلى هذا الوجه ما راجعة إلى الجنات والعيون .

وقوله : ( إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ) إشارة إلى ثمنها أي أخذوها وملكوها بالإحسان ، كما قال تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى ) [ يونس : 26 ] بلام الملك وهي الجنة .

المسألة الثانية : آخذين حال وهو في معنى قول القائل يأخذون فكيف قال ما آتاهم ولم يقل ما يؤتيهم ليتفق اللفظان ، ويوافق المعنى ; لأن قوله : ( آتاهم ) ينبئ عن الانقراض وقوله : ( يؤتيهم ) [ النساء : 152 ] تنبيه على الدوام وإيتاء الله في الجنة كل يوم متجدد ولا نهاية له ، ولا سيما إذا فسرنا الأخذ بالقبول ، كيف يصح أن يقال فلان يقبل اليوم ما آتاه زيد أمس ؟ نقول : أما على ما ذكرنا من التفسير لا يرد لأن معناه يتملكون ما أعطاهم ، وقد يوجد الإعطاء أمس ويتملك اليوم ، وأما على ما ذكروه فنقول الله تعالى أعطى المؤمن الجنة وهو في الدنيا غير أنه لم يكن جنى ثمارها فهو يدخلها على هيئة الآخذ وربما يأخذ خيرا مما آتاه ، ولا ينافي ذلك كونه داخلا على تلك الهيئة ، يقول القائل : جئتك خائفا فإذا أنا آمن ، وما ذكرتم إنما يلزم أن لو كان أخذهم مقتصرا على ما آتاهم من قبل ، وليس كذلك وإنما هم دخلوها على ذلك ولم يخطر ببالهم غيره فيؤتيهم الله ما لم يخطر ببالهم فيأخذون ما يؤتيهم الله وإن دخلوها ليأخذوا ما آتاهم ، وقوله تعالى : ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ) [ يس: 55] هو أخذهم ما آتاهم وقد ذكرناه في سورة يس .

المسألة الثالثة : ذلك إشارة إلى ماذا ؟ نقول : يحتمل وجهين .

أحدهما : قبل دخولهم لأن قوله تعالى : ( في جنات ) فيه معنى الدخول يعني قبل دخولهم الجنة أحسنوا .

ثانيهما : قبل إيتاء الله ما آتاهم الحسنى وهي الجنة فأخذوها ، وفيه وجوه أخر ، وهو أن ذلك إشارة إلى يوم الدين وقد تقدم .

( وأما اللطائف ) فقد سبق بعضها ، ومنها أن قوله تعالى : ( إن المتقين ) لما كان إشارة إلى التقوى من الشرك كان كأنه قال الذين آمنوا ، لكن الإيمان مع العمل الصالح يفيد سعادتين ، ولذلك دلالة أتم من قول القائل إنهم أحسنوا .

( اللطيفة الثانية ) أما التقوى فلأنه لما قال لا إله فقد اتقى الشرك ، وأما الإحسان فلأنه لما قال إلا الله فقد أتى بالإحسان ، ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى إنها لا إله إلا الله وفي الإحسان قال تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) [ فصلت : 33 ] وقيل في تفسير : ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) [الرحمن : 60 ] إن الإحسان هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله وهما حينئذ لا يتفاصلان بل هما متلازمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية