( 
ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى   ) 
ثم قال تعالى : ( 
ما ضل صاحبكم وما غوى   ) أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي ، والذي قاله   
[ ص: 242 ] بعضهم عند محاولة الفرق : أن الضلال في مقابلة الهدى ، والغي في مقابلة الرشد ، قال تعالى : ( 
وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا   ) [ الأعراف : 146] وقال تعالى : ( 
قد تبين الرشد من الغي   ) [ البقرة : 256] وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالا في الوضع ، تقول ضل بعيري ورحلي ، ولا تقول غوى ، فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقا أصلا ، والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم ، يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنه ضال ، والضال كالكافر ، والغاوي كالفاسق ، فكأنه تعالى قال : ( 
ما ضل   ) أي ما كفر ، ولا أقل من ذلك فما فسق ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : ( 
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم   ) [ النساء : 6] أو نقول الضلال كالعدم ، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة ، وقوله ( 
صاحبكم   ) فيه وجهان : 
الأول : سيدكم والآخر : مصاحبكم ، يقال صاحب البيت ورب البيت ، ويحتمل أن يكون المراد من قوله ( 
ما ضل   ) أي ما جن ، فإن المجنون ضال ، وعلى هذا فهو كقوله تعالى : ( 
ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون   ) [ القلم : 1 4] فيكون إشارة إلى أنه ما غوى ، بل هو رشيد مرشد دال على الله بإرشاد آخر ، كما قال تعالى : ( 
قل ما أسألكم عليه من أجر   ) [ ص : 86] وقال : ( 
إن أجري إلا على الله   ) [ سبأ : 47] وقوله تعالى : ( 
وإنك لعلى خلق عظيم   ) [ القلم : 4] إشارة إلى قوله هاهنا ( 
وما ينطق عن الهوى   ) فإن هذا خلق عظيم ، ولنبين الترتيب فنقول : قال أولا ( 
ما ضل   ) أي هو على الطريق ( 
وما غوى   ) أي طريقه الذي هو عليه مستقيم ( 
وما ينطق عن الهوى   ) أي هو راكب متنه آخذ سمت المقصود ، وذلك لأن من يسلك طريقا ليصل إلى مقصده فربما يبقى بلا طريق ، وربما يجد إليه طريقا بعيدا فيه متاعب ومهالك ، وربما يجد طريقا واسعا آمنا ، ولكنه يميل يمنة ويسرة فيبعد عنه المقصد ، ويتأخر عليه الوصول ، فإذا سلك الجادة وركب متنها كان أسرع وصولا ، ويمكن أن يقال ( 
وما ينطق عن الهوى   ) دليل على أنه ما ضل وما غوى ، تقديره : كيف يضل أو يغوى وهو 
لا ينطق عن الهوى ، وإنما 
يضل من يتبع الهوى ، ويدل عليه قوله تعالى : ( 
ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله   ) [ ص : 26] فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله ( 
ما ضل   ) وصيغة المستقبل في قوله ( 
وما ينطق   ) في غاية الحسن ، أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره ( 
وما غوى   ) حين اختلى بنفسه ورأى منامه "ما رأى " ( 
وما ينطق عن الهوى   ) الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولا شاهدا عليكم ، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا ، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا . وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة ؟ نقول بلى ، وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب ، فقال تعالى : ( 
ما ضل   ) في صغره ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنها المحبة ، لكن من النفس ، يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوي تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية ، فالنفس إذا كانت دنيئة ، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء ، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة ، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة ، فإنها مستعملة في موضع المدح ، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : ( 
فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا   ) إلى قوله ( 
ونهى النفس عن الهوى   ) [ النازعات : 37 40] إشارة إلى علو مرتبة النفس .  
[ ص: 243 ]