صفحة جزء
( إن هو إلا وحي يوحى )

ثم قال تعالى : ( إن هو إلا وحي يوحى ) بكلمة البيان ، وذلك لأنه تعالى لما قال : ( وما ينطق عن الهوى ) [ النجم : 3] كأن قائلا قال : فبماذا ينطق أعن الدليل أو الاجتهاد ؟ فقال لا ، وإنما ينطق عن الله بالوحي ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : ( إن ) استعملت مكان ( ما ) للنفي ، كما استعملت ( ما ) للشرط مكان ( إن ) ، قال تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) [ البقرة : 106] والمشابهة بينهما من حيث اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فلأن ( إن ) من الهمزة والنون ، و( ما ) من الميم والألف ، والألف كالهمزة والنون كالميم ، أما الأول : فبدليل جواز القلب ، وأما الثاني : فبدليل جواز الإدغام ووجوبه ، وأما المعنى فلأن ( إن ) تدل على النفي من وجه ، وعلى الإثبات من وجه ، ولكن دلالتها على النفي أقوى وأبلغ ، لأن الشرط والجزاء في صورة استعمال لفظة ( إن ) يجب أن يكون في الحالة معدوما إذا كان المقصود الحث أو المنع ، تقول إن تحسن فلك الثواب ، وإن تسئ فلك العذاب ، وإن كان المراد بيان حال القسمين المشكوك فيهما كقولك : إن كان هذا الفص زجاجا فقيمته نصف ، وإن كان جوهرا فقيمته ألف ، فهاهنا وجود شيء منهما غير معلوم وعدم العلم حاصل ، وعدم العلم هاهنا كعدم الحصول في الحث والمنع ، فلا بد في صور استعمال إن عدم ، إما في الأمر ، وإما في العلم ، وإما في الوجود فذلك عند وجود الشرط في بيان الحال ، ولهذا قال النحاة : لا يحسن أن يقال إن احمر البسر آتيك ، لأن ذلك أمر سيوجد لا محالة ، وجوزوا استعمال إن فيما لا يوجد أصلا ، يقال في قطع الرجاء إن ابيض القار تغلبني ، قال الله تعالى : ( فإن استقر مكانه فسوف تراني ) [ الأعراف : 143] ولم يوجد الاستقرار ولا الرؤية ، فعلم أن دلالته على النفي أتم ، فإن مدلوله إلى مدلول ما أقرب فاستعمل أحدهما مكان الآخر هذا هو الظاهر ، وما يقال إن وما ، حرفان نافيان في الأصل ، فلا حاجة إلى الترادف .

المسألة الثانية : هو ضمير معلوم أو ضمير مذكور ؟ نقول فيه وجهان أشهرهما : أنه ضمير معلوم وهو القرآن ، كأنه يقول : ما القرآن إلا وحي ، وهذا على قول من قال النجم ليس المراد منه القرآن ، وأما على قول من يقول هو القرآن فهو عائد إلى مذكور . والوجه الثاني : أنه عائد إلى مذكور ضمنا وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه ؛ وذلك لأن قوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى ) في ضمنه النطق وهو كلام وقول فكأنه تعالى يقول وما كلامه وهو نطقه إلا وحي ، وفيه وجه آخر أبعد وأدق ، وهو أن يقال قوله تعالى : ( ما ضل صاحبكم ) قد ذكر أن المراد منه في وجه أنه ما جن وما مسه الجن فليس بكاهن ، وقوله ( وما غوى ) أي ليس بينه وبين الغواية تعلق ، فليس بشاعر ، فإن الشعراء يتبعهم الغاوون ، [ الشعراء : 42] وحينئذ يكون قوله ( وما ينطق عن الهوى ) ردا عليهم حيث قالوا : قوله قول ( كاهن ) وقالوا : قوله قول شاعر ، فقال ما قوله إلا وحي وليس بقول كاهن ولا شاعر كما قال تعالى : ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ) [ الحاقة : 41 42] .

المسألة الثالثة : الوحي اسم أو مصدر ؟ نقول يحتمل الوجهين ، فإن الوحي اسم معناه الكتاب ومصدر وله معان منها الإرسال والإلهام ، والكتابة والكلام والإشارة والإفهام فإن قلنا هو ضمير القرآن ، فالوحي اسم [ ص: 244 ] معناه الكتاب كأنه يقول ، ما القرآن إلا كتاب ، ويوحى بمعنى يرسل ، ويحتمل على هذا أيضا أن يقال هو مصدر ، أي ما القرآن إلا إرسال وإلهام ، بمعنى المفعول أي مرسل ، وإن قلنا المراد من قوله ( إن هو ) قوله وكلامه ، فالوحي حينئذ هو الإلهام ملهم من الله ، أو مرسل وفيه مباحث :

البحث الأول : الظاهر خلاف ما هو المشهور عند بعض المفسرين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينطق إلا عن وحي ، ولا حجة لمن توهم هذا في الآية ، لأن قوله تعالى : ( إن هو إلا وحي يوحى ) إن كان ضمير القرآن فظاهر وإن كان ضميرا عائدا إلى قوله ، فالمراد من قوله هو القول الذي كانوا يقولون فيه إنه قول شاعر ، ورد الله عليهم فقال : ( وما هو بقول شاعر ) [ الحاقة : 41] وذلك القول هو القرآن ، وإن قلنا بما قالوا به فينبغي أن يفسر الوحي بالإلهام .

البحث الثاني : هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجتهد وهو خلاف الظاهر ، فإنه في الحروب اجتهد وحرم ما قال الله لم يحرم وأذن لمن قال تعالى : ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) [ التوبة : 43]، نقول على ما ثبت لا تدل الآية عليه .

البحث الثالث : يوحى يحتمل أن يكون من وحي يوحي ويحتمل أن يكون من أوحى يوحي ، تقول عدم يعدم ، وأعدم يعدم وكذلك علم يعلم وأعلم يعلم ، فنقول يوحى من أوحى لا من وحى ، وإن كان وحي وأوحى كلاهما جاء بمعنى ولكن الله في القرآن عند ذكر المصدر لم يذكر الإيحاء الذي هو مصدر أوحى ، وعند ذكر الفعل لم يذكر وحي ، الذي مصدره وحي ، بل قال عند ذكر المصدر الوحي ، وقال عند ذكر الفعل ( أوحى ) [ الأنعام : 19] وكذلك القول في أحب وحب فإن حب وأحب بمعنى واحد ، والله تعالى عند ذكر المصدر لم يذكر في القرآن الإحباب ، وذكر الحب إلى ( أشد حبا ) [ البقرة : 165] وعند الفعل لم يقل حبه الله بل قال : ( يحبهم ويحبونه ) [ المائدة : 54] ، وقال : ( أيحب أحدكم ) [ الحجرات : 12] وقال : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92] إلى غير ذلك ، وفيه سر من علم الصرف وهو أن المصدر والفعل الماضي الثلاثي فيهما خلاف ، قال بعض علماء الصرف المصدر مشتق من الفعل الماضي ، والماضي هو الأصل ، والدليل عليه وجهان ، لفظي ومعنوي :

أما اللفظي فإنهم يقولون مصدر فعل يفعل إذا كان متعديا فعلا بسكون العين ، وإذا كان لازما فعول في الأكثر ، ولا يقولون الفعل الماضي من فعول فعلى ، وهذا دليل ما ذكرنا .

وأما المعنوي فلأن ما يوجد من الأمور لا يوجد إلا وهو خاص ، وفي ضمنه العام مثاله الإنسان الذي يوجد ويتحقق يكون زيدا أو عمرا أو غيرهما ، ويكون في ضمنه أنه هندي أو تركي وفي ضمن ذلك أنه حيوان وناطق ، ولا يوجد أولا إنسان ثم يصير تركيا ثم يصير زيدا أو عمرا .

إذا علمت هذا فالفعل الذي يتحقق لا ينفك من أن يكون ماضيا أو مستقبلا ، وفي ضمنه أنه فعل مع قطع النظر عن مضيه واستقباله ، مثاله الضرب إذا وجد فإما أن يكون قد مضى أو بعد لم يمض ، والأول ماض والثاني حاضر أو مستقبل ، ولا يوجد الضرب من حيث إنه ضرب خاليا عن المضي والحضور والاستقبال ، غير أن العاقل يدرك من فعل وهو يفعل الآن وسيفعل غدا أمرا مشتركا فيسميه فعلا ، كذلك يدرك في ضرب وهو يضرب الآن وسيضرب غدا أمرا مشتركا فيسميه ضربا فضرب يوجد أولا ويستخرج منه الضرب ، والألفاظ [ ص: 245 ] وضعت لأمور تتحقق فيها فيعبر بها عنها ، والأمور المشتركة لا تتحقق إلا في ضمن أشياء أخر ، فالوضع أولا لما يوجد منه لا يدرك منه قبل الضرب ، وهذا ما يمكن أن يقال لمن يقول الماضي أصل والمصدر مأخوذ منه ، وأما الذي يقول المصدر أصل والماضي مأخوذ منه فله دلائل منها أن الاسم أصل ، والفعل متفرع ، والمصدر اسم ، ولأن المصدر معرب والماضي مبني ، والإعراب قبل البناء ولأن قال وقال ، وراع وراع ، إذا أردنا الفرق بينهما نرد أبنيتهما إلى المصدر فنقول : قال : الألف منقلبة من واو بدليل القول ، وقال : ألف منقلبة من ياء بدليل القيل ، وكذلك الروع والريع . وأما المعقول فلأن الألفاظ وضعت للأمور التي في الأذهان ، والعام قبل الخاص في الذهن ، فإن الموجود إذا أدرك يقول المدرك هذا الموجود جوهر أو عرض فإذا أدرك أنه جوهر يقول إنه جسم أو غير جسم عند من يجعل الجسم جوهرا وهو الأصح الأظهر ، ثم إذا أدرك كونه جسما يقول هو تام ، وكذلك الأمر إلى أن ينتهي إلى أخص الأشياء إن أمكن الانتهاء إليه بالتقسيم ، فالوضع الأول الفعل وهو المصدر من غير زيادة ، ثم إذا انضم إليه زمان تقول : ضرب أو سيضرب فالمصدر قبل الماضي ، وهذا هو الأصح ، إذا علمت هذا فنقول على مذهب من يقول المصدر في الثلاثي من الماضي فالحب وأحب كلاهما في درجة واحدة لأن كليهما من حب يحب ، والمصدر من الثلاثي قبل مصدر المنشعبة بمرتبة ، وعلى مذهب من يقول الماضي في الثلاثي مأخوذ من المصدر فالمصدر الثلاثي قبل المصدر في المنشعبة بمرتبتين ، فاستعمل مصدر الثلاثي لأنه قبل مصدر المنشعبة ، وأما الفعل في أحب وأوحى فلأن الألف فيهما تفيد فائدة لا يفيدها الثلاثي المجرد لأن أحب أدخل في التعدية وأبعد عن توهم اللزوم فاستعمله .

المسألة الرابعة : ( إن هو إلا وحي ) أبلغ من قول القائل هو وحي ، وفيه فائدة غير المبالغة وهي أنهم كانوا يقولون هو قول كاهن ، هو قول شاعر ، فأراد نفي قولهم ، وذلك يحصل بصيغة النفي ، فقال ما هو كما يقولون وزاد فقال : بل هو وحي ، وفيه زيادة فائدة أخرى وهو قوله ( يوحى ) ذلك كقوله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) وفيه تحقيق الحقيقة ، فإن الفرس الشديد العدو ربما يقال هو طائر فإذا قال يطير بجناحيه يزيل جواز المجاز ، كذلك يقول بعض من لا يحترز في الكلام ويبالغ في المبالغة كلام فلان وحي ، كما يقول شعره سحر ، وكما يقول قوله معجزة ، فإذا قال يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية