صفحة جزء
( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر )

ثم قال تعالى : ( إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قوله : ( إنا مرسلو الناقة ) بمعنى الماضي أو بمعنى المستقبل ، إن كان بمعنى الماضي فكيف يقول : ( فارتقبهم واصطبر ) وإن كان بمعنى المستقبل ، فما الفرق بين حكاية عاد وحكاية ثمود حيث قال هناك : ( أنا أرسلنا ) [ القمر : 19 ] وقال هاهنا : ( إنا مرسلو الناقة ) بمعنى إنا نرسل ؟ نقول : هو بمعنى المستقبل ، وما قبله وهو قوله : ( سيعلمون غدا ) يدل عليه ، فإن قوله : ( إنا مرسلو الناقة ) كالبيان له ، كأنه قال ( سيعلمون ) حيث : نرسل الناقة وما بعده من قوله : ( فارتقبهم ) و" نبئهم " أيضا يقتضي ذلك ، فإن قيل : قوله تعالى : ( فنادوا ) دليل على أن المراد الماضي ، قلنا : سنجيب عنه في موضعه ، وأما الفارق فنقول : حكاية ثمود مستقصاة في هذا الموضع ؛ حيث ذكر تكذيب القوم بالنذر ، وقولهم لرسولهم وتصديق الرسل بقوله : ( سيعلمون ) وذكر المعجزة وهي الناقة وما فعلوه بها والعذاب والهلاك ، يذكر حكاية على وجه الماضي والمستقبل ليكون وصفه للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه حاضرها فيقتدي بصالح في الصبر والدعاء إلى الحق ، ويثق بربه في النصر على الأعداء بالحق فقال : إني مؤيدك بالمعجزة القاطعة ، واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص ، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتم وجه ؛ لأن حال صالح كان أكثر مشابهة بحال محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أتى بأمر عجيب أرضي كان أعجب مما جاء به الأنبياء ؛ لأن عيسى عليه السلام أحيا الميت ، لكن الميت كان محلا للحياة فأثبت بإذن الله الحياة في محل كان قابلا لها ،وموسى عليه السلام انقلبت عصاه ثعبانا فأثبت الله له في الخشبة الحياة ، لكن الخشبة نبات كان له قوة في النماء يشبه الحيوان في النمو فهو أعجب ، وصالح عليه السلام كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر ، جماد لا محل للحياة ولا محل للنمو فيه ، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى بأعجب من الكل وهو التصرف في جرم السماء الذي يقول المشرك لا وصول [ ص: 48 ] لأحد إلى السماء ولا إمكان لشقه وخرقه ، وأما الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كل واحد منها صورة الأخرى ، والسماوات لا تقبل ذلك فلما أتى بما عرفوا فيه أنه لا يقدر على مثله آدمي كان أتم وأبلغ من معجزة صالح عليه السلام ، التي هي أتم معجزة من معجزات من كان من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم ( وفيه لطيفة ) وهو أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي وذكر معه مفعوله فالواجب الإضافة ، تقول : وحشي قاتل عم النبي صلى الله عليه وسلم . فإن قلنا : قاتل عم النبي بالإعمال فلا بد من تقدير الحكاية في الحال كما في قوله تعالى : ( وكلبهم باسط ذراعيه ) [ الكهف : 18 ] على أنه يحكي القصة في حال وقوعها ، تقول : خرجت أمس فإذا زيد ضارب عمرا ، كما تقول : يضرب عمرا ، وإن كان الضرب قد مضى ، وإذا كان بمعنى المستقبل فالأحسن الإعمال تقول : إني ضارب عمرا غدا ، فإن قلت : إني ضارب عمرو غدا حيث كان الأمر وقع وكان جاز لكنه غير الأحسن ، والتحقيق فيه أن قولنا : ضارب وسارق وقاتل أسماء في الحقيقة غير أن لها دلالة على الفعل ، فإذا كان الفعل تحقق في الماضي فهو قد عدم حقيقة ، فلا وجود للفعل في الحقيقة ولا في التوقع ، فيجب الحمل على ما للاسم من الإضافة وترك ما للفعل من الأعمال لغلبة الاسمية وفقدان الفعل بالماضي ، وإذا كان الفعل حاضرا أو متوقعا في الاستقبال فله وجود حقيقة أو في التوقع ، فتجوز الإضافة لصورة الاسم ، والإعمال لتوقع الفعل أو لوجوده ، ولكن الإعمال أولى ؛ لأن في الاستقبال " لن يضرب " يفيد " لا يكون ضاربا " فلا ينبغي أن يضاف ، أما الإعمال فهو ينبئ عن توقع الفعل أو وجوده ؛ لأنه إذا قال : زيد ضارب عمرا فالسامع إذا سمع بضرب عمرو علم أنه يفعل فإذا لم يره في الحال يتوقعه في الاستقبال غير أن الإضافة تفيد تخفيفا حيث سقط بها التنوين ، والنون فتختار لفظا لا معنى ، إذا عرفت هذا فنقول : ( مرسلو الناقة ) مع ما فيه من التخفيف فيه تحقيق الأمر وتقديره كأنه وقع وكان بخلاف ما لو قيل : إنا نرسل الناقة .

المسألة الثانية : " فتنة " مفعول له فتكون الفتنة هي المقصودة من الإرسال ، لكن المقصود منه تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو صالح عليه السلام ؛ لأنه معجزة فما التحقيق في تفسيره ؟ نقول : فيه وجهان:

أحدهما : أن المعجزة فتنة ؛ لأن بها يتميز حال من يثاب ممن يعذب ؛ لأن الله تعالى بالمعجزة لا يعذب الكفار إلا إذا كان ينبئهم بصدقه من حيث نبوته ، فالمعجزة ابتلاء لأنها تصديق وبعد التصديق يتميز المصدق عن المكذب .

وثانيهما : وهو أدق ، أن إخراج الناقة من الصخرة كان معجزة ، وإرسالها إليهم ودورانها فيما بينهم ، وقسمة الماء كان فتنة ؛ ولهذا قال : ( إنا مرسلو الناقة فتنة ) ولم يقل : إنا مخرجو الناقة فتنة ، والتحقيق في الفتنة والابتلاء والامتحان قد تقدم مرارا ، وإليه إشارة خفية وهي أن الله تعالى يهدي من يشاء وللهداية طرق ، منها ما يكون على وجه يكون للإنسان مدخل فيه بالكسب ، مثاله يخلق شيئا دالا ، ويقع تفكر الإنسان فيه ونظره إليه على وجه يترجح عنده الحق فيتبعه ، وتارة يلجئه إليه ابتداء ، ويصونه عن الخطأ من صغره فإظهار المعجز على يد الرسول أمر يهدي به من يشاء اهتداء مع الكسب وهداية الأنبياء من غير كسب منهم ، بل يخلق فيهم علوما غير كسبية ، فقوله : ( إنا مرسلو الناقة فتنة ) إشارة إليهم ، ولهذا قال لهم : ومعناه على وجه يصلح لأن يكون فتنة وعلى هذا كل من كانت معجزته أظهر يكون ثواب قومه أقل ، وقوله تعالى : ( فارتقبهم ) أي فارتقبهم بالعذاب ، ولم يقل : فارتقب العذاب إشارة إلى حسن الأدب والاجتناب عن طلب الشر ، وقوله تعالى : ( واصطبر ) يؤيد ذلك بمعنى إن كانوا يؤذونك فلا تستعجل لهم العذاب ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى قرب الوقت إلى أمرهما ، والأمر بحيث يعجز عن الصبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية