صفحة جزء
( أم يقولون نحن جميع منتصر )

ثم قال تعالى : ( أم يقولون نحن جميع منتصر ) تتميما لبيان أقسام الخلاص وحصره فيها ، وذلك لأن الخلاص إما أن يكون لاستحقاق من يخلص عن العذاب ، كما أن الملك إذا عذب جماعة ورأى فيهم من أحسن إليه فلا يعذبه ، وإما أن يكون لأمر في المخلص كما إذا رأى فيهم من له ولد صغير أو أم ضعيفة فيرحمه وإن لم يستحق ويكتب له الخلاص ، وإما أن لا يكون فيه ما يستحق الخلاص بسببه ولا في نفس المعذب مما يوجب الرحمة لكنه لا يقدر عليه بسبب كثرة أعوانه وتعصب إخوانه ، كما إذا هرب واحد من الملك والتجأ إلى عسكر يمنعون الملك عنه ، فكما نفى القسمين الأولين كذلك نفى القسم الثالث وهو التمنع بالأعوان وتحزب الإخوان ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في حسن الترتيب وذلك لأن المستحق لذاته أقرب إلى الخلاص من المرحوم ، فإن المستحق لم يوجد فيه سبب العذاب والمرحوم وجد فيه ذلك ، ووجد المانع من العذاب ، وما لا سبب له لا يتحقق أصلا ، وما له مانع ربما لا يقوى المانع على دفع السبب ، وما في نفس المعذب من المانع أقوى من الذي بسبب الغير ؛ لأن الذي من عنده يمنع الداعية ولا يتحقق الفعل عند عدم الداعية ، والذي من الغير بسبب التمنع لا يقطع قصده بل يجتهد وربما يغلب فيكون تعذيبه أضعاف ما كان من قبل ، بخلاف من يرق له قلبه وتمنعه الرحمة فإنها وإن لم تمنعه لكن لا يزيد في حمله وحبسه وزيادته في التعذيب عند القدرة ، فهذا ترتيب في غاية الحسن . [ ص: 60 ]

المسألة الثانية : ( جميع ) فيه فائدتان إحداهما الكثرة والأخرى الاتفاق ، كأنه قال : نحن كثير متفقون فلنا الانتصار ، ولا يقوم غير هذه اللفظة مقامها من الألفاظ المفردة ، إنما قلنا : إن فيه فائدتين ؛ لأن الجمع يدل على الجماعة بحروفه الأصلية من ج م ع وبوزنه وهو فعيل بمعنى مفعول على أنهم جمعوا جمعيتهم العصبية ، ويحتمل أن يقال : معناه نحن الكل لا خارج عنا إشارة إلى أن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم لا اعتداد به قال تعالى في نوح : ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) [ الشعراء : 111 ] ( إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) [ هود : 27 ] وعلى هذا " جميع " يكون التنوين فيه لقطع الإضافة كأنهم قالوا : نحن جمع الناس .

المسألة الثالثة : ما وجه إفراد المنتصر مع أن نحن ضمير الجمع ؟ نقول : على الوجه الأول ظاهر ؛ لأنه وصف الجزء الآخر الواقع خبرا فهو كقول القائل : أنتم جنس منتصر وهم عسكر غالب والجميع كالجنس لفظه لفظ واحد ، ومعناه جمع فيه الكثرة ، وأما على الوجه الثاني فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن المعنى وإن كان جميع الناس لا خارج عنهم إلا من لا يعتد به ، لكن لما قطع ونون صار كالمنكر في الأصل فجاز وصفه بالمنكر ؛ نظرا إلى اللفظ فعاد إلى الوجه الأول .

وثانيهما : أنه خبر بعد خبر ، ويجوز أن يكون أحد الخبرين معرفة والآخر نكرة ، قال تعالى : ( وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد ) [ البروج : 14 - 16 ] وعلى هذا فقوله : ( نحن جميع منتصر ) أفرده لمجاورته " جميع " ، ويحتمل أن يقال معنى : ( نحن جميع منتصر ) أن جميعا بمعنى كل واحد كأنه قال : نحن كل واحد منا منتصر ، كما تقول : هم جميعهم أقوياء بمعنى أن كل واحد منهم قوي ، وهم كلهم علماء أي كل واحد عالم ، فترك الجمع واختار الإفراد لعود الخبر إلى كل واحد ، فإنهم كانوا يقولون : كل واحد منا يغلب محمدا صلى الله عليه وسلم كما قال أبي بن خلف الجمحي ، وهذا فيه معنى لطيف وهو أنهم ادعوا أن كل واحد غالب ، والله رد عليهم بأجمعهم بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية