صفحة جزء
[ ص: 98 ] ( سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان )

التحقيق في قوله تعالى : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) ولنذكر أولا ما قيل فيه تبركا بأقوال المشايخ ثم نحققه بالبيان الشافي ، فنقول : اختلف المفسرون فيه وأكثرهم على أن المراد سنقصدكم بالفعل ، وقال بعضهم : خرج ذلك مخرج التهديد على ما هي عادة استعمال الناس ، فإن السيد يقول لعبده عند الغضب : سأفرغ لك ، وقد يكون السيد فارغا جالسا لا يمنعه شغل ، وأما التحقيق فيه ، فنقول : عدم الفراغ عبارة عن أن يكون الفاعل في فعل لا يمكنه معه إيجاد فعل آخر فإن من يخيط يقول : ما أنا بفارغ للكتابة ، لكن عدم الفراغ قد يكون لكون أحد الفعلين مانعا للفاعل من الفعل الآخر ، يقال : هو مشغول بكذا عن كذا كما في قول القائل : أنا مشغول بالخياطة عن الكتابة ، وقد يكون عدم الفراغ لكون الفعل مانعا من الفعل لا لكونه مانعا من الفاعل ، كالذي يحرك جسما في زمان لا يمكن تسكينه في ذلك الزمان فهو ليس بفارغ للتسكين ، ولكن لا يقال في مثل هذا الوقت أنا مشغول بالتحريك عن التسكين ، فإن في مثل هذا الموضع لو كان غير مشغول به بل كان في نفس المحل حركة لا بفعل ذلك الفاعل لا يمكنه التسكين فليس امتناعه منه إلا لاستحالته بالتحريك ، وفي الصورة الأولى لولا اشتغاله بالخياطة لتمكن من الكتابة ، إذا عرفت هذا صار عدم الفراغ قسمين :

أحدهما : بشغل والآخر ليس بشغل ، فنقول : إذا كان الله تعالى باختياره أوجد الإنسان وأبقاه مدة أرادها بمحض القدرة والإرادة لا يمكن مع هذا إعدامه ، فهو في فعل لا يمنع الفاعل لكن يمنع الفعل ، ومثل هذا بينا أنه ليس بفراغ ، وإن كان له شغل ، فإذا أوجد ما أراد أولا ثم بعد ذلك أمكن الإعدام والزيادة في آنه فيتحقق الفراغ ، لكن لما كان للإنسان مشاهدة مقتصرة على أفعال نفسه وأفعال أبناء جنسه وعدم الفراغ منهم بسبب الشغل يظن أن الله تعالى فارغ فحمل الخلق عليه أنه ليس بفارغ ، فيلزم منه الفعل وهو لا يشغله شأن عن شأن يلزمه حمل اللفظ على غير معناه ، واعلم أن هذا ليس قولا آخر غير قول المشايخ ، بل هو بيان لقولهم : سنقصدكم ، غير أن هذا مبين ، والحمد لله على أن هدانا للبيان من غير خروج عن قول أرباب اللسان . واعلم أن أصل الفراغ بمعنى الخلو ، لكن ذلك إن كان في المكان فيتسع ليتمكن آخر ، وإن كان في زمان فيتسع للفعل ، فالأصل أن زمان الفاعل فارغ عن فعله وغير فارغ لكن المكان مرئي بالخلو فيه ، فيطلق الفراغ على خلو المكان في الظرف الفلاني والزمان غير مرئي ، فلا يرى خلوه . ويقال : فلان في زمان كذا فارغ لأن فلانا هو المرئي لا الزمان ، والأصل أن هذا الزمان من أزمنة فلان فيمكنه وصفه للفعل فيه ، وقوله تعالى : ( سنفرغ لكم ) استعمال على ملاحظة الأصل ، لأن المكان إذا خلا يقال : لكذا ولا يقال : إلى كذا ، فكذلك الزمان ، لكن لما نقل إلى الفاعل وقيل : الفاعل على فراغ وهو عند الفراغ يقصد إلى شيء آخر ، قيل في الفاعل : فرغ من كذا إلى كذا ، وفي الظرف يقال : فرغ من كذا لكذا ، فقال لكم على ملاحظة الأصل ، وهو يقوي ما ذكرنا أن المانع ليس بالنسبة إلى الفاعل بل بالنسبة إلى الفعل . وأما " أيها " فنقول : الحكمة في نداء المبهم والإتيان بالوصف بعده هي أن المنادي يريد صون كلامه عن الضياع ، فيقول أولا : يا أي نداء لمبهم ليقبل عليه كل من يسمع ويتنبه لكلامه من يقصده ، ثم عند إقبال السامعين يخصص المقصود فيقول الرجل والتزم فيه أمران :

أحدهما : بالمعرف باللام أو باسم الإشارة ، فتقول : يا أيها الرجل أو يا أيهذا لا الأعرف منه وهو العلم ، لأن بين المبهم الواقع على كل جنس والعلم المميز عن كل شخص تباعدا . وثانيهما : توسط التنبيه بينه وبين [ ص: 99 ] الوصف لأن الأصل في أي الإضافة لما أنه في غاية الإبهام فيحتاج إلى التمييز ، وأصل التمييز على ما بينا الإضافة ، فوسط بينهما لتعويضه عن الإضافة ، والتزم أيضا حذف لام التعريف عند زوال أي فلا تقول : يا الرجل لأن في ذلك تطويلا من غير فائدة ، فإنك لا تفيد باللام التنبيه الذي ذكرنا ، فقولك : يا رجل مفيد فلا حاجة إلى اللام ، فهو يوجب إسقاط اللام عند الإضافة المعنوية ، فإنها لما أفادت التعريف كان إثبات اللام تطويلا من غير فائدة لكونه جمعا بين المعرفين ، وقوله تعالى : ( الثقلان ) المشهور أن المراد الجن والإنس وفيه وجوه :

أحدها : أنهما سميا بذلك لكونهما مثقلين بالذنوب .

ثانيهما : سميا بذلك لكونهما ثقيلين على وجه الأرض فإن التراب وإن لطف في الخلق ليتم خلق آدم لكنه لم يخرج عن كونه ثقيلا ، وأما النار فلما ولد فيها خلق الجن كثفت يسيرا ، فكما أن التراب لطف يسيرا فكذلك النار صارت ثقيلة ، فهما ثقلان فسميا بذلك .

ثالثها : الثقيل أحدهما لا غير وسمي الآخر به للمجاورة والاصطحاب كما يقال : العمران والقمران وأحدهما عمر وقمر ، أو يحتمل أن يكون المراد العموم بالنوعين الحاضرين ، تقول : يا أيها الثقل الذي هو كذا ، والثقل الذي ليس كذا ، والثقل الأمر العظيم . قال عليه السلام : إني تارك فيكم الثقلين .

التالي السابق


الخدمات العلمية