( 
أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون   ) . 
ثم قال تعالى : ( 
أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون   ) . 
وفيه مسائل : المسألة الأولى : ( هذا ) إشارة إلى ماذا ؟ فنقول : المشهور أنه إشارة إلى القرآن وإطلاق الحديث في القرآن على الكلام القديم كثير بمعنى كونه اسما لا وصفا فإن الحديث اسم لما يتحدث به ، ووصف يوصف به ما يتجدد ، فيقال : أمر حادث ورسم حديث أي جديد ، ويقال : أعجبني حديث فلان وكلامه وقد بينا أن القرآن قديم له لذة الكلام الجديد والحديث الذي لم يسمع . الوجه الثاني : أنه إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى : ( 
وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون   ) [ الواقعة : 47 - 48 ] وذلك لأن الكلام مستقل منتظم فإنه تعالى رد عليهم ذلك بقوله تعالى : ( 
قل إن الأولين والآخرين   ) [ الواقعة : 49 ] وذكر الدليل عليهم بقوله : ( 
نحن خلقناكم   ) وبقوله : ( 
أفرأيتم ما تمنون   ) ( 
أفرأيتم ما تحرثون   ) وأقسم بعد إقامة الدلائل بقوله : ( 
فلا أقسم   ) وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله : ( 
إنه لقرآن   ) ثم عاد إلى كلامهم ، وقال : ( 
أفبهذا الحديث   ) الذي تتحدثون به ( 
أنتم مدهنون   ) لأصحابكم تعلمون خلافه وتقولونه ، أم أنتم به جازمون ، وعلى الإصرار عازمون ، وسنبين وجهه بتفسير المدهن ، وفيه وجهان : 
أحدهما : أن المدهن المراد به المكذب قال 
الزجاج    : معناه أفبالقرآن أنتم تكذبون ، والتحقيق فيه أن الإدهان تليين الكلام لاستمالة السامع من غير اعتقاد صحة الكلام من المتكلم ، كما أن العدو إذا عجز عن عدوه يقول له : أنا داع لك ومثن عليك مداهنة وهو كاذب ، فصار استعمال المدهن في المكذب استعمالا ثانيا ، وهذا إذا قلنا : إن الحديث هو القرآن . 
والوجه الثاني : المدهن هو الذي يلين في الكلام ويوافق باللسان وهو مصر على الخلاف فقال : ( 
أنتم   ) فمنهم من يقول : إن النبي كاذب ، وإن الحشر محال وذلك لما هم عليه من حب الرياسة ، وتخافون أنكم إن صدقتم ومنعتم ضعفاءكم عن الكفر يفوت عليكم من كسبكم ما تربحونه بسببهم فتجعلون رزقكم   
[ ص: 172 ] أنكم تكذبون الرسل ، والأول عليه أكثر المفسرين ، لكن الثاني مطابق لصريح اللفظ فإن الحديث بكلامهم أولى وهو عبارة عن قولهم : ( 
أئنا لمبعوثون   ) والمدهن يبقى على حقيقته فإنهم ما كانوا مدهنين بالقرآن ، وقول 
الزجاج    : مكذبون جاء بعده صريحا . وأما قوله : ( 
وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون   ) ففيه وجوه : 
الأول : تجعلون شكر النعم أنكم تقولون مطرنا بنوء كذا ، وهذا عليه أكثر المفسرين . 
الثاني : تجعلون معاشكم وكسبكم تكذيب 
محمد  ، يقال : فلان قطع الطريق معاشه ، والرزق في الأصل مصدر سمي به ما يرزق ، يقال للمأكول رزق ، كما يقال للمقدور قدرة ، والمخلوق خلق ، وعلى هذا فالتكذيب مصدر قصد به ما كانوا يحصلون به مقاصدهم ، وأما قوله : ( 
تكذبون   ) فعلى الأول المراد تكذيبهم بما قال الله تعالى : ( 
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها   ) [ هود : 6 ] وغير ذلك ، وعلى الثاني المراد جميع ما صدر منهم من التكذيب ، وهو أقرب إلى اللفظ .