صفحة جزء
( وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) ثم قال تعالى : ( وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : أي وكل واحد من الفريقين ( وعد الله الحسنى ) أي المثوبة الحسنى ، وهي الجنة مع تفاوت الدرجات .

المسألة الثانية : القراءة المشهورة ( وكلا ) بالنصب ؛ لأنه بمنزلة : زيدا وعدت خيرا ، فهو مفعول وعد ، وقرأ ابن عامر : [ وكل ] بالرفع ، وحجته أن الفعل إذا تأخر عن مفعوله لم يقع عمله فيه ، والدليل عليه أنهم قالوا :

[ ص: 192 ] زيد ضربت ، وكقوله في الشعر :


قد أصبحت أم الخيار تدعي علي ذنبا كله لم أصنع



روي ( كله ) بالرفع لتأخر الفعل عنه لموجب آخر ، واعلم أن للشيخ عبد القاهر في هذا الباب كلاما حسنا ، قال : إن المعنى في هذا البيت يتفاوت بسبب النصب والرفع ، وذلك لأن النصب يفيد أنه ما فعل كل الذنوب ، وهذا لا ينافي كونه فاعلا لبعض الذنوب ، فإنه إذا قال : ما فعلت كل الذنوب ، أفاد أنه ما فعل الكل ، ويبقى احتمال أنه فعل البعض ، بل عند من يقول : بأن دليل الخطاب حجة يكون ذلك اعترافا بأنه فعل بعض الذنوب . أما رواية الرفع ، وهي قوله : كله لم أصنع ، فمعناه أن كل واحد من الذنوب محكوم عليه بأنه غير مصنوع ، فيكون معناه أنه ما أتى بشيء من الذنوب البتة ، وغرض الشاعر أن يدعي البراءة عن جميع الذنوب ، فعلمنا أن المعنى يتفاوت بالرفع والنصب ، ومما يتفاوت فيه المعنى بسبب تفاوت الإعراب في هذا الباب قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) [ القمر : 49 ] فمن قرأ ( كل شيء ) بالنصب ، أفاد أنه تعالى خلق الكل بقدر ، ومن قرأ ( كل ) بالرفع لم يفد أنه تعالى خلق الكل ، بل يفيد أن كل ما كان مخلوقا له فهو إنما خلقه بقدر ، وقد يكون تفاوت الإعراب في هذا الباب بحيث لا يوجب تفاوت المعنى كقوله : ( والقمر قدرناه ) [ يس : 39 ] فإنك سواء قرأت ( والقمر ) بالرفع أو بالنصب فإن المعنى واحد فكذا في هذه الآية سواء قرأت ( وكلا وعد الله الحسنى ) أو قرأت " وكل وعد الله الحسنى " فإن المعنى واحد غير متفاوت .

المسألة الثالثة : تقدير الآية : وكلا وعده الله الحسنى إلا أنه حذف الضمير لظهوره كما في قوله : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) [ الفرقان : 41 ] وكذا قوله : ( واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ) [ البقرة : 48 ] ثم قال : ( والله بما تعملون خبير ) والمعنى أنه تعالى لما وعد السابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالما بالجزئيات ، وبجميع المعلومات، حتى يمكنه إيصال الثواب إلى المستحقين ، إذ لو لم يكن عالما بهم وبأفعالهم على سبيل التفصيل ، لما أمكن الخروج عن عهدة الوعد بالتمام ، فلهذا السبب أتبع ذلك الوعد بقوله : ( والله بما تعملون خبير ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية