[ ص: 82 ] 
( 
أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون سلهم أيهم بذلك زعيم أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين يوم يكشف عن ساق   ) 
ثم قال تعالى : ( 
أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون   ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : يقال : لفلان علي يمين بكذا إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به يعني أم ضمنا منكم ، وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد . فإن قيل : إلى في قوله : ( 
إلى يوم القيامة   ) بم يتعلق ؟ قلنا : فيه وجهان : 
الأول : أنها متعلقة بقوله : ( 
بالغة   ) أي هذه الأيمان في قوتها وكمالها بحيث تبلغ إلى يوم القيامة . 
والثاني : أن يكون التقدير : أيمان ثابتة إلى يوم القيامة . ويكون معنى ( بالغة ) مؤكدة كما تقول : جيدة بالغة ، وكل شيء متناه في الصحة والجودة فهو بالغ ، وأما قوله : ( 
إن لكم لما تحكمون   ) فهو جواب القسم ؛ لأن معنى : ( 
أم لكم أيمان علينا   ) أم أقسمنا لكم . 
المسألة الثانية : قرأ 
الحسن    ( بالغة ) بالنصب وهو نصب على الحال من الضمير في الظرف . ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام : ( 
سلهم أيهم بذلك زعيم   ) 
والمعنى أيهم بذلك الحكم زعيم ، أي قائم به وبالاستدلال على صحته ، كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم . 
ثم قال : ( 
أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين   ) 
وفي تفسيره وجهان : 
الأول : المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله ، فيعتقدون أن أولئك الشركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب ، وإنما أضاف الشركاء إليهم ؛ لأنهم جعلوها شركاء لله ، وهذا كقوله : ( 
هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء   ) ( الروم : 40 ) . 
الوجه الثاني : في المعنى أم لهم ناس يشاركونهم في هذا المذهب وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين ، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم ، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب ، ولا دليل نقلي وهو كتاب يدرسونه ، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول ، وذلك يدل على أنه باطل من كل الوجوه . 
واعلم أنه تعالى لما أبطل قولهم ، وأفسد مقالتهم شرح بعد ذلك عظمة يوم القيامة . 
فقال : ( 
يوم يكشف عن ساق   ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : يوم منصوب بماذا ؟ فيه ثلاثة أوجه : 
أحدها : أنه منصوب ، بقوله : ( فليأتوا ) في قوله : ( 
فليأتوا بشركائهم   ) وذلك أن ذلك اليوم يوم شديد ، فكأنه تعالى قال : إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة ، لتنفعهم وتشفع لهم . 
وثانيها : أنه منصوب بإضمار اذكر . 
وثالثها : أن يكون التقدير : يوم يكشف عن ساق ، كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ ، وأن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمته . 
المسألة الثانية : هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق ، أهو يوم القيامة أو في الدنيا ؟ فيه قولان : 
الأول وهو الذي عليه الجمهور : أنه يوم القيامة ، ثم في تفسير الساق وجوه : 
الأول : أنه الشدة ، وروي أنه سئل 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن   [ ص: 83 ] عباس  عن هذه الآية ، فقال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر ، فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر : 
سن لنا قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق 
ثم قال : وهو كرب وشدة ، وروى 
 nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد  عنه قال : هو أشد ساعة في القيامة ، وأنشد أهل اللغة أبياتا كثيرة ( منها ) : 
فإن شمرت لك عن ساقها     فويها ربيع ولا تسأم 
ومنها : 
كشفت لكم عن ساقها     وبدا من الشر الصراح 
وقال 
جرير    : 
ألا رب سام الطرف من آل مازن     إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا 
وقال آخر : 
في سنة قد شمرت عن ساقها     حمراء تبري اللحم عن عراقها 
وقال آخر : 
قد شمرت عن ساقها فشدوا     وجدت الحرب بكم فجدوا 
ثم قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13436ابن قتيبة    : أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه ، يشمر عن ساقه ، فلا جرم يقال في موضع الشدة : كشف عن ساقه ، واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسما ، فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز ، واعلم أن صاحب "الكشاف" أورد هذا التأويل في معرض آخر ، فقال : الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر ، فمعنى قوله : ( 
يوم يكشف عن ساق   ) يوم يشتد الأمر ويتفاقم ، ولا كشف ثم ، ولا ساق ، كما تقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل ، ثم أخذ يعظم علم البيان ، ويقول : لولاه لما وقفنا على هذه الأسرار ، وأقول : إما أن يدعي أنه صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل ، أو يقول : إنه لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة ، والأول باطل بإجماع المسلمين ، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفة في أمر المعاد فإنهم يقولون في قوله : ( 
جنات تجري من تحتها الأنهار   ) ( البروج : 11 ) ليس هناك لا أنهار ولا أشجار ، وإنما هو مثل للذة والسعادة ، ويقولون في قوله : ( 
اركعوا واسجدوا   ) ( الحج : 77 ) ليس هناك لا سجود ولا ركوع . وإنما هو مثل للتعظيم ، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع وفساد الدين ، وأما إن قال : بأنه لا يصار إلى هذا التأويل إلا بعد قيام الدلالة على أنه لا يجوز حمله على ظاهره ، فهذا هو الذي لم يزل كل أحد من المتكلمين ( إلا ) قال به وعول عليه ، فأين هذه الدقائق التي استبد هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطة علم البيان ، فرحم الله امرءا عرف قدره ، وما تجاوز طوره . 
القول الثاني : وهو   
[ ص: 84 ] قول 
أبي سعيد الضرير    : ( 
يوم يكشف عن ساق   ) ، أي عن أصل الأمر ، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر ، وساق الإنسان ، أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها . 
القول الثالث : يوم يكشف عن ساق جهنم ، أو عن ساق العرش ، أو عن ساق ملك مهيب عظيم ، واللفظ لا يدل إلا على ساق ، فإما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه . 
والقول الرابع : وهو اختيار المشبهة ، أنه ساق الله ، تعالى الله عنه ، روي عن 
ابن مسعود  عنه عليه الصلاة والسلام : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16013862أنه تعالى يتمثل للخلق يوم القيامة حين يمر المسلمون ، فيقول : من تعبدون ؟ فيقولون : نعبد الله فيشهدهم مرتين أو ثلاثا ثم يقول : هل تعرفون ربكم ، فيقولون : سبحانه إذا عرفنا نفسه عرفناه ، فعند ذلك يكشف عن ساق ، فلا يبقى مؤمن إلا خر ساجدا ، ويبقى المنافقون ظهورهم كالطبق الواحد كأنما فيها السفافيد   " . 
واعلم أن هذا القول باطل لوجوه : 
أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم محدث ؛ لأن كل جسم متناه ، وكل متناه محدث ؛ ولأن كل جسم فإنه لا ينفك عن الحركة والسكون ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ؛ ولأن كل جسم ممكن ، وكل ممكن محدث . 
وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف ، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن ، أما لو حملناه على الشدة ، ففائدة التنكير الدلالة على التعظيم ، كأنه قيل : يوم يكشف عن شدة ، وأي شدة ، أي شدة لا يمكن وصفها . 
وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق ، وإنما يحصل بكشف الوجه . 
القول الثاني : أن قوله : ( 
يوم يكشف عن ساق   ) ليس المراد منه يوم القيامة ، بل هو في الدنيا ، وهذا قول 
أبي مسلم  قال : إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ؛ لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم : ( 
ويدعون إلى السجود   ) ( القلم : 42 ) ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف ، بل المراد منه ، إما آخر أيام الرجل في دنياه كقوله تعالى : ( 
يوم يرون الملائكة لا بشرى   ) ( الفرقان : 22 ) ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة ؛ لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها ، وإما حال الهرم والمرض والعجز ، وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن ، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت أو من العجز والهرم ، ونظير هذه الآية قوله : ( 
فلولا إذا بلغت الحلقوم   ) ( الواقعة : 83 ) واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله 
أبو مسلم  ، فأما قوله : إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل ههنا ، والتكاليف زائلة يوم القيامة ، فجوابه أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف ، بل على سبيل التقريع والتخجيل ، فلم قلتم : إن ذلك غير جائز ؟ 
المسألة الثالثة : قرئ : ( يوم نكشف ) بالنون و ( تكشف ) بالتاء المنقوطة من فوق على البناء للفاعل والمفعول جميعا ، والفعل للساعة أو للحال ، أي يوم يشتد الحال أو الساعة ، كما تقول : كشف الحرب عن ساقها على المجاز . وقرئ ( تكشف ) بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ، ومنه أكشف الرجل فهو مكشف إذا انقلبت شفته العليا .