صفحة جزء
( فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية )

قوله تعالى ( فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية ) الضمير إن كان عائدا إلى ( فرعون ومن قبله ) ، فرسول ربهم هو موسى عليه السلام ، وإن كان عائدا إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط ، قال الواحدي : والوجه أن يقال : المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله ، ( فعصوا ) فيكون كقوله : ( إنا رسول رب العالمين ) ، وقوله : ( فأخذهم أخذة رابية ) يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد ، ثم فيه وجهان :

[ ص: 94 ] الأول : أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار .

الثاني : أن عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة ، لقوله : ( أغرقوا فأدخلوا نارا ) وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا ، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو .

القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام

قوله تعالى : ( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية )

طغى الماء على خزانه فلم يدروا كم خرج ، وليس ينزل من السماء قطرة قبل تلك الواقعة ولا بعدها إلا بكيل معلوم ، وسائر المفسرين قالوا : ( طغى الماء ) أي تجاوز حده حتى علا كل شيء وارتفع فوقه ، و ( حملناكم ) أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم ، ولا شك أن الذين خوطبوا بهذا هم أولاد الذين كانوا في السفينة ، وقوله : ( في الجارية ) يعني في السفينة التي تجري في الماء ، وهي سفينة نوح عليه السلام ، والجارية من أسماء السفينة ، ومنه قوله : ( وله الجواري ) ( الرحمن : 24 ) .

قوله تعالى : ( لنجعلها لكم تذكرة ) الضمير في قوله : ( لنجعلها ) إلى ماذا يرجع ؟ فيه وجهان :

الأول : قال الزجاج : إنه عائد إلى الواقعة التي هي معلومة ، وإن كانت ههنا غير مذكورة ، والتقدير لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة وعبرة .

الثاني : قال الفراء : لنجعل السفينة ، وهذا ضعيف والأول هو الصواب ، ويدل على صحته قوله : ( وتعيها أذن واعية ) فالضمير في قوله : ( وتعيها ) عائد إلى ما عاد إليه الضمير الأول ، لكن الضمير في قوله : ( وتعيها ) لا يمكن عوده إلى السفينة فكذا الضمير الأول .

قوله تعالى : ( وتعيها أذن واعية ) فيه مسألتان :

المسألة الأولى : يقال لكل شيء حفظته في نفسك : وعيته ، ووعيت العلم ، ووعيت ما قلت ، ويقال : لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيته يقال : أوعيت المتاع في الوعاء ، ومنه قول الشاعر :


والشر أخبث ما أوعيت من زاد



واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق بالسفينة وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ونفاذ مشيئته ، ونهاية حكمته ورحمته وشدة قهره وسطوته ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية : "سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي ، قال علي : فما نسيت شيئا بعد ذلك ، وما كان لي أن أنسى" فإن قيل : لم قال ( أذن واعية ) على التوحيد والتنكير ؟ قلنا : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله ، وأن ما سواها لا يلتفت إليهم ، وإن امتلأ العالم منهم .

المسألة الثانية : قراءة العامة : ( وتعيها ) بكسر العين ، وروي عن ابن كثير ( وتعيها ) ساكنة العين كأنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ ، فأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف ، وإنما فعل ذلك لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل ، فأشبه ما هو من نفس الكلمة ، وصار كقول من قال : وهو وهي ومثل ذلك قوله : ( ويتقه ) في قراءة من سكن القاف . [ ص: 95 ] واعلم أنه تعالى لما حكى هذه القصص الثلاث ونبه بها عن ثبوت القدرة والحكمة للصانع ، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة ، وثبت بثبوت الحكمة إمكان وقوع القيامة .

ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة فذكر أولا مقدماتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية